سماء دمشق التي تزداد ظلمة
سماء دمشق التي تزداد ظلمة
● مقالات رأي ١ أغسطس ٢٠١٧

سماء دمشق التي تزداد ظلمة

ولدت في مدينة دمشق غريباً، لأبوين غريبين تقاذفتهما نكبة فلسطين ليجدا نفسيهما مع خمسة أطفال في مدينة دمشق. لم يتعلم أبي درس النكبة ويتوقف عن الإنجاب، استمر في الإنجاب، وأضاف أربعة أولاد إلى العائلة، كنت آخرهم في الترتيب. لم أشعر يوماً أن دمشق مدينتي، ولطالما شعرت بجدار يفصلني عنها. كان حسد أصدقائي السوريين يُهوّن عليّ غربتي، فأعرف أنهم غرباء في بلدهم أكثر مني. كانت ذروة الحسد، في الأيام الكابوسية لاستفتاءات الرئاسة، حيث يقاد الجميع كقطيع لإعلان الإذعان للرجل الأول الذي امتهن إذلال البلد بكل الطرق التي يمكن عقلاً مريضاً أن يخترعها. أما في مسيرات التأييد للرجل «المعجزة» فكنا جزءاً من القطيع.

بعيداً من السياسة، كان أصدقائي السوريون يشفقون عليّ بوصفي الغريب الدائم في بلد يدعي أنه يُبقيني غريباً من أجل مصلحتي الشخصية والوطنية، حفاظاً على حقي بالعودة إلى بلدي التي يعرف أنها مستحيلة، لكنها تصلح كشعار لتوغل في سحق البلد وإخراسه.

«إذا خربت حياتك في هذه الزاوية من العالم... فأينما حللت ستكون خراباً»... منذ غادرت دمشق قبل خمس سنوات وكلمات الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي تدق في رأسي طوال الوقت. نعم، لقد كانت حياتي خربة من قبل أن أولد. لم أعرف الطبيعي حتى أقيس عليه: كيف يعيش الإنسان العادي والطبيعي في وطنه في ظل شروط عادية وطبيعية؟ هذا ترف لم أعرفه. كنت واهماً عندما اعتقدت أن الآخرين (السوريين) يعرفون ما هو العادي والطبيعي. كان الطبيعي في ظل حكم البعث، أن يكون الاستثناء هو القاعدة، وكانت غربة السوريين في وطنهم أقسى من غربتي فيه. أنا والسوري الذي يجايلني، ممن ولدنا بعد حكم البعث وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في آذار (مارس) 1963، لم نعرف الطبيعي ولا العادي، عشنا حياتنا كلها في ظل الاستثنائي، لدرجة لم يعد أحد يذكر ما كان عليه البلد قبل البعث، وقبل الأسد الأب. لا تاريخ لسورية قبله، يبدأ التاريخ وينتهي بالعائلة بعد توريث الابن. وحد القمع الجميع في سورية، «مواطنين» وغرباء. لم ينل السوريون والفلسطينيون وحدهم حصتهم من القمع، فقد وسع ووزع النظام قمعه وشمل آلاف اللبنانيين والكثير من العراقيين والأردنيين وغيرهم أيضاً.

في كل مكان في سورية لم يكد أحد ينجو من مساءلة المخابرات، وزج مئات آلاف المعتقلين في السجون زمن الأسد الأب، ومجزرة بشعة في مدينة حماة العام 1982، نجح الأسد الأب من خلالها في إخراس البلد وتعميم الخوف على الجميع. أي وطن هذا الذي أولد فيه خائفاً؟! ما معنى أن أكون سورياً في زمن البعث والأسد، سوى أن أكون خائفاً من كل شيء؟! أفكر أحياناً، كم من العائلات ستهدم، إضافة لتلك التي هدمتها وحشية الأسد الابن، إذا سقط النظام وفُتحت ملفات المخابرات للعموم؟! كم من الأبناء والآباء والزوجات والأزواج والإخوة، الذين أجبرهم النظام على كتابة تقارير بعضهم عن بعض ستدمر مكانتهم عند بعضهم؟! ستبقى آثار النظام المدمرة فعّالة حتى في حال سقوطه، الخيال الإجرامي في أوسع حدوده. هذه الـ«سورية» التي عرفناها وخبرناها، شوهتني وشوهت كل السوريين، وحولتنا إلى معطوبين ومخصيين. هناك الكثير الذي دمر في سورية قبل سقوط البراميل المتفجرة التي أرسلها الأسد الابن لتسقط على رؤوس السوريين في المدن والقرى السورية، متمماً مهمة والده. هذه الـ«سورية» لا يضربني الحنين إليها على الإطلاق، ذكراها تشعرني بالخوف. ولا أحنّ إلى التاريخ التافه للبلد ولا إلى عمارة البلد القبيحة. أحنّ إلى الأصدقاء الذين هناك كانوا أجمل ما في تجربتي السورية، واليوم تكاد سورية تفرغ منهم تماماً، فهم ينقصون كل يوم، وتزداد سماء دمشق ظلمة.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: سمير الزبن
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ