سورية.. حضور أميركا وغيابها
سورية.. حضور أميركا وغيابها
● مقالات رأي ٢١ فبراير ٢٠١٨

سورية.. حضور أميركا وغيابها

تتوافق المخاوف الأميركية مع المعارضة السورية، بما يتعلق "بخطورة الوضع الراهن، وما يمكن أن تؤدي إليه عرقلة العملية السياسية"، حسب بيان الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية، الصادر يوم 14 فبراير/ شباط الجاري، إثر لقاء جمع وفداً من الهيئة بوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، ريكس تيلرسون، في عمّان، على الرغم من أن تلك المخاوف نابعةٌ من موقف العجز الذي تمر به المعارضة السورية، أشمام قوى التصارع الدولية على سورية، وفيها، وقدرة هذه الدول على التحكّم بمآلات تصعيد التوتر داخل الأراضي السورية، والتلاعب بمسار المفاوضات، سواء المتعلقة بوقف إطلاق النار، أو التي تحرف المسار السياسي من مكانته الأممية إلى الرعاية الثلاثية (روسيا، إيران، تركيا)، كما كانت المحاولة التي تمت في مؤتمر سوتشي، إلا أن المخاوف الأميركية لا يمكن أن تنبع من المكانة نفسها غير القادرة على تحريك العملية السياسية، والحد من مستوى العنف في سورية، إلا إذا كانت أميركا تريد أن تأخذ دور المتفرج والرابح في النهاية.

يتميز الحضور الأميركي في سورية والعراق بأنه كالحاضر الغائب، ففي حين يستوجب وجود قوة عظمى في المنطقة حفظ السلام والأمن الدوليين، حسب دورها العالمي، فإن كلا البلدين اللذين "ينعمان" بالوجود الأميركي، قوة عسكرية متفاعلة، يعيشان حالةً من الفوضى، والحروب المتعدّدة الأطراف التي تقع الولايات المتحدة طرفا متحاربا فيها، بدل أن تكون حامية للاستقرار، وعامل ضمان لمنع التمدّد الإيراني الذي تتكاثف التصريحات الأميركية بشأن محاربته، وإرغام إيران على الانكفاء داخل حدودها، ما يثير الشبهات في ما يتعلق بمصداقية تلك التصريحات التي لا تقترن على الأرض بأي حراكٍ فاعل، يهدد المصالح الإيرانية، باستثناء التصريحات والتلميحات التي لا تثمر في المعارك عن أي انتصارات، ولم تأت بأي تفاهماتٍ دوليةٍ، تعيدها إلى داخل حدودها، بعيدا عن العواصم العربية الأربع التي تمارس عبرها التدخل في منظومة الحكم فيها، من بغداد إلى بيروت ودمشق وصنعاء.

وعندما تأخذ الإدارة الأميركية دور الحاضر في الشأن السوري تميز بين حضورها العسكري لمشروعها الخاص بها في الشمال السوري، تحت غطاء الوجود الكردي، ودعمها له في حربها على "داعش"، وبين غيابها التام عما يحدث في مناطق مختلفة من سورية، مثل ريفي دمشق وإدلب، وحتى عفرين الواقعة تحت سيطرة حلفائها من الكرد، فبين حضورها في الشمال، وتمتعها بكامل حصانتها التي تدافع عنها، تارة، متصدّرة قواتها التي يزيد تعدادها المعلن عن ألفي جندي أميركي المشهد، وتارة أخرى، مختبئة بعباءة التحالف الدولي ضد الإرهاب، بينما تترك المناطق الساخنة تشتعل بنيران القوات الروسية والإيرانية، إضافة إلى التدخل التركي، أخيرا، والذي يمكن تسميته حالة تعميم الغرق لكل الجهات الضامنة لخفض التصعيد الموقع في العاصمة الكازاخستانية أستانة، مكتفية بطلب ضبط النفس، أو التنديد بما ينتجه ذلك التصعيد من مآسٍ إنسانية في مناطق التخفيض.

من الملاحظ أن الولايات المتحدة مارست سياسة إغراق كل الأطراف في مستنقع الحرب، لإعادة توزيع الأدوار من داخل الصراع، وليس من خارجه، فالوجود الكردي في منبج وعفرين كان بمثابة التهديد الذي تعلم الإدارة الأميركية أن تركيا لن تصمت تجاهه طويلاً، وهي أمام خيار القبول به من باب الرضوخ للإرادة الأميركية، متعاليةً على جراحها، أو خيار المواجهة (الذي اختارته) لتغيير قواعد اللعبة مع واشنطن، والدخول في حربٍ مع كرد سورية تحت غطاء الحفاظ على أمنها القومي، وحماية حدودها من أطماع حزب العمال الكردستاني التي تصنفه "إرهابيا"، على الرغم من أن مغالطات كثيرة بنيت عليها هذه الحرب، ونتج عنها خسائر في البشر والبنية التحتية، والأهم من هذا وذاك ما نتج من خلط الأوراق بين القضيتين، الكردية السورية والتركية الكردية، والتعاطي مع الأمر من منظور اللحظة الراهنة، من دون النظر إلى أبعاد هذه الحرب، في ظل إشراك فصائل سورية معارضة إلى جانب القوات التركية، في مواجهة القوات الكردية التي معظمها من السوريين.

تتمسّك تركيا بفرض خريطة جديدة لتوزيع قواتها داخل الأراضي السورية، ومنها نقاط سيطرة لها في عفرين ومنبج وإدلب شرق السكة والريف الحلبي. وفي المقابل، يستوجب ذلك عليها تفاهمات مع روسيا وإيران، تسمح من خلالها لكل من الدولتين ممارسة أقصى حدود العنف، لفرض سيطرتهم على ما تبقى من خارطة أستانة، لإعادة الاعتبار إلى هذا المسار، بعد انهيار تخفيض التوتر، الذي تمهد له كل من الدول الثلاث الضامنة "برفع مستوى التصعيد" الذي تشهده سورية، ويعد من أسوأ المراحل العنفية التي مرت عليها خلال سنوات الحرب. وبذلك تتجاهل تركيا ما ينتج عن التصعيد من مجازر، وخسائر في صفوف المعارضة التي تقف تركيا في المحافل الدولية داعمة لهم، على نقيض موقف كل من إيران وروسيا الداعمتين للنظام السوري.

ويستجلب هذا التقاسم على النفوذ في سورية أشرس المعارك في أنحاء مختلفة من الغوطة الشرقية وإدلب وعفرين، ضمن عملية مواجهة مشتركة بين ثلاثي أستانة، لمواجه الرغبة الأميركية بالشراكة مع فرنسا وبريطانيا، المتمسكة بمسار مفاوضات جنيف، ضمن قواعد تفاوضية جديدة، مهدت لها "اللاورقة" التي نتجت عن اجتماع باريس (24/1)، وأسست لمفهوم جديد في العملية الانتقالية، يبدأ من تغييراتٍ في شكل الحكم ونظامه في سورية، وصولا إلى إقامة نظام حكم لامركزي، تمهد من خلاله الإدارة الأميركية تثبيت حضورها الدائم في الإقليم الشمالي الذي يعد المنطقة الاستراتيجية اقتصادياً وجغرافياً وسكانياً، ما يعني أن السوريين يواجهون مشروعين متضادين بالتبني الدولي، وبالآن نفسه، يلتقيان في خانة تقاسم النفوذ أحدهما (الروسي، التركي، الإيراني) يريدون سورية النظام مع امتيازات وجودهم الدائم. والمشروع الآخر يريد سورية جديدة مع حفظ حقوق الأقاليم بإدارتها نفسها، ضمن ما يمكن تسميتها فيدرالية خاصة، وأيضاً يبرّر هذا الشكل من الحكم الوجود الأميركي الذي لم تحدد الإدارة نهاية له.

فمن الوجود الأميركي العسكري الفعلي في الشمال، إلى شبه الصمت عما يحدث في الريف الدمشقي ووسط البلاد، إلى الحماية المطلقة للحدود "الإسرائيلية"، تتوزع الأدوار الأميركية بين الحضور والغياب، لكنها في المحصلة لا يمكن اعتبارها قوة مجهولة التأثير في المعادلة السورية، وإنما هي الطرف الذي على المعارضة السورية البناء على حضوره وغيابه، بما يتناسب والمشروع الوطني، لسحب الورقة الكردية منه، ضمن تفاهماتٍ للبحث عن حل عادل لها، وقطع الطريق على حربٍ شرسةٍ تخوضها تركيا في عفرين، بصياغة حل سوري - سوري يعالج مخاوف تركيا من جهة، ويبني على الوعود الأميركية في إقامة دولة سورية الديمقراطية، من دون أن يكون لأي مكون فيها ميزة التسلح بقوة خارجية.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: سميرة المسالمة
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ