طفرة في التفكير لفهم طفرة «داعش»
طفرة في التفكير لفهم طفرة «داعش»
● مقالات رأي ٣٠ أكتوبر ٢٠١٤

طفرة في التفكير لفهم طفرة «داعش»

ما يجعل من «داعش» طفرة مفاجئة ليس ظهورها الشبحي ووحشيتها الخارقة فقط، وإنما كذلك هيمنة أنماط تفكير «موضوعية» في مجال االثقافي والسياسي، قد تحسن شرح ما هو واقع، لكنها لا تملك أدوات ولغة لاستيعاب ظهور فاعلين وذاتيات جديدة. الأمر يتعلق بضيق أفق تفكيرنا، وليس فقط بغرابة هذا الكائن الجديد.
تقول المقاربة المهيمنة في تفكيرنا إن «داعش» وليدة شروط «موضوعية»، اجتماعية واقتصادية وسياسية وديمغرافية…، ونتكلم على تزايد سكاني وعلى استبداد سياسي وإفقار اقتصادي، وانسداد تاريخي. ويجري لفت النظر إلى أن ظواهر مقاربة لـ»داعش» تنتشر في بيئات محطمة. هذا مؤكد. لكن «الشروط الموضوعية» لا تنتج من تلقائها ذاتيات سياسية. هنا قفزة لا تستطيع القيام بها أية «معرفة علمية» و»موضوعية»، وإن كانت مؤهلة جيدا لإلقاء أضواء على الإطار العام للظاهرة وصعودها. الواقع أن هذه المقاربة تعطي الانطباع بأنه إذا توفرت الشروط الموضوعية تتولد الظاهرة تلقائيا، وسيتولد معها فاعلوها. هذا ليس غير مقنع فقط، وإنما هو سحري أيضا.
في القطب الآخر للتفكير هناك نظرية مشهورة جدا وشائعة جدا، نظرية المؤامرة. هنا «داعش» مصنوعة مخبريا في إيران، أو على يدي النظام الأسدي، أو أنها صناعة أمريكية. قد تكون مواد التصنيع محلية، لكن «البرنامج» و»الروح» بثها الصانع القدير في صنيعته. لا شيء يفاجئ نظرية المؤامرة، فهي تعرف تفسير كل شيء.
ولعل هذه النظرية، وهي تحول الفاعلين إلى خالقين من عدم، ردٌ على النظريات الاجتماعية «الموضوعية» التي تنكر وجود الفاعلين أو تردهم إلى حاملين سلبيين لبنيات سابقة عليهم. وقد تكون ظهرت كنتاج جانبي للعلمنة، وصعود الموضوعية والعلموية، وظهور العلوم الاجتماعية.
لكن تطورت في الإنسانيات في بضعة العقود الأخيرة مناهج ومقاربات تعنى بدور الفاعلين، بعد أن كانت هيمنت المقاربة البنيوية والوظيفية الطاردة للفاعل، والماركسية شبه الطاردة له. الظواهر الاجتماعية والسياسية، مثل ظهور داعش في مثالنا، نتاج لبشر في شروط محددة، لكنهم مشكّلون أيضا للظروف ومبادرون، ويعملون على توجيه الأوضاع المتاحة في كل وقت بما بناسبهم. ولديهم في كل وضع تقريبا هوامش مناورة وحرية، وقلما يكونون مضطرين كليا لفعل ما ما فعلوا تحديدا وحصرا.
يمتنع ونحن نفكر في ظهور وصعود «داعش» مثلا أن نتغافل عن شبكات سلفية قوية، إقليمية ومحلية، ومعولمة، تجمع بين عقيدة متشددة، وبين أقنية اتصال وتنظيم لا تكاد الدولة، أية دولة، تنجح في مراقبتها، الانترنت وغرف المحادثة، وبالتأكيد مواقع وصفحات تواصل وتنسيق مغلقة، ثم المال الوفير من شبكات خليجية تجمع بين تحجر الفكر وبين النموذج الفكري والسياسي المجرد جدا حتى في مجتمعاتها هي، ومن باب أولى في مجتمع أكثر تعقيدا كالمجتمع السوري. السلفية عقيدة طاعة في تلك البلدان (ربما تختلط الطاعة هناك بالتقية وبالحساب العقلاني لموازين القوى)، لكنها هنا عقيدة تمرد مطلق، وإن يكن منتجا لطاعته المطلقة حين يسيطر. مثال السلفيين مبرأ كليا من أي بعد تحرري أو إنساني، إن من حيث أصوله التاريخية (تعرض أبرز ملهميه لتجارب قاسية، جعلتهم شخصيات قاسية متشددة)، أو من حيث البيئات الاجتماعية المصدرة له. وهو منفصل عن أي إطار ثقافي حي، ما يجعله عقيدة عابرة للثقافات والمجتمعات، وعولمية بيسر، على ما يفيد أوليفيه روا في «الجهل المقدس».
عن هذا المزيج من العقيدة والمال والاتصال- التنظيم، وظروف سياسية معلومة («حلف مقدس» من الأميركيين والسعوديين والمصريين والباكستانيين… حارب السوفييت في أفغانستان، واستورد مقاتلين من بلدان عربية، جرى تصديرهم بعد ذلك تحت اسم «الأفغان العرب») كانت تولدت قوة تخمير عالمية، «القاعدة». وعبر تاريخ قصير، لكنه مليء بوقائع مشهدية لا تسقط من الذاكرة، صارت «القاعدة» لقطاع من الشباب في مجتمعات المسلمين الحالية مثالا بطوليا شديد الإغراء، وفرصة لحياة كبيرة، ملحمية، وهذا في مجتمعات بأكملها تعيش أجيالها حياة صغيرة، ينخرها الفساد والتخاذل والتفاهة والذل. هذا البعد الرمزي الأسطوري مهم فيما نرى في ولادة الحركات الإيديولوجية والسياسية الكبيرة عموما. وهو بالغ الأهمية في بلدان تعاني من فراغ شديد في المشروع والمشروعية، والفكرة الجاذبة، ولا يجد أكثر سكانها معنى لحياتهم.
وفي سوريا، سهّل من صعود هذا الفاعل أن هناك خطوط تفاعل وعمل كانت مفتوحة بين أجهزة النظام وبين مجموعات جهادية، محلية وعربية، كان يتدبر أمر إرسالها إلى العراق مرة، وإلى لبنان مرة، ويعتقل مجموعاتها مرة، ويطلق سراحها مرة (مما هو ليس من عادة النظام السوري حتى بخصوص سجناء رأي سلميين). النظام يلعب بهم ومعهم، لكنهم هم أيضا يلعبون. هو يمكر، هم يعرفون ذلك، وهم يمكرون أيضا، والله خير الماكرين.
وفي هذه الأثناء بني في المختبر العراقي الجسر الذي سيقود من «القاعدة» إلى «داعش»: «دولة العراق الإسلامية»، وقد ولدت في الظلام من تلاقح قاعدة أبو مصعب الزرقاوي والبعثية العراقية المهزومة.
ولعل هناك عاملا مساعدا بصورة خاصة على حدوث الطفرة الغولية، يتمثل في درجة متقدمة من تشوش المدارك وحيرة النفوس، ومن الشعور بالضآلة وهوان الشأن، في بيئات الطفرة. في سوريا درجة متقدمة من الضياع والغربة في البيئات المسلمة السنية، المنحدرة من أحياء وبلدات وأرياف متدهورة، وتشهدا تكاثرا سكانيا كبيرا. وهي تعاني أكثر من غيرها في البلد من الشعور بالدونية ومن فقدان المراجع الموثوقة، ولديها، تاليا، الطلب الأقوى على اليقين والثقة بالنفس، ولا تجد عرضا مواتيا لهما في غير صيغ الدين المتشددة. الديانة السلفية المبسطة، وبتصرفها عقيدة الولاء والبراء المانوية التي تشبع الطلب على الهوية والتمايز، وكذلك مفهوم العزة الإسلامي ذي المنشأ الحربي والامبراطوري، توفر لجمهور معزول ومحتقر فرصة للثقة بالنفس، ولتهدئة ما في أغوار النفس من انفعالات ورغبات وأشواق.
في المحصلة، لدينا «داعش» وما يشبهها لأن هناك من ناضل من أجلها، وإن في شروط مواتية. «داعش» في المحصلة مزيج من التنظيم السلفي الجهادي، العنيف والسري، ومن البعثية العراقية المهزومة، ومن السنية السورية المشتتة الكيان والوجهة. هذا الغول وليد العنف والكراهية والظلام والخوف والمهانة.
هذه الخطوط العريضة أقل من أن تجيب على السؤال عن كيف ظهرت «داعش». لكن لعلها تكفي للقول إن «داعش» طفرة، وإننا نحتاج إلى طفرة في التفكير لنستوعب تخلّق هذا الوحش.

 

المصدر: القدس العربي الكاتب: ياسين الحاج صالح
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ