مفاوضات آستانة: ملامح تعب على وجه القاتل
مفاوضات آستانة: ملامح تعب على وجه القاتل
● مقالات رأي ٧ مايو ٢٠١٧

مفاوضات آستانة: ملامح تعب على وجه القاتل

عشية نهاية الجولة الرابعة من مفاوضات آستانة، وزع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقريراً قال فيه: «إن النساء والفتيات هن أكثر الفئات عرضة للتأثر في سياق تفتيش المنازل وعند نقاط التفتيش وفي مرافق الاحتجاز، بعد اختطافهن من القوات الموالية للحكومة وفي المعابر الحدودية». وأشار التقرير إلى العنف الجنسي كأسلوب «منهجي» في الحرب السورية.

والتعبير الأخير، «أسلوب منهجي»، لم يسبق أن ورد في أي تقرير أممي يتناول حروب منطقتنا، على رغم أن عنفاً جنسياً شهدته حروبنا الأخرى، لكنه لم يكن منهجياً. و «منهجياً» تعني أن لهذا العنف وظيفة سياسية وعسكرية، وهو جزء من منطق الحرب ومن وظائف المقاتل فيها. البوسنة، في التقارير الدولية، شهدت عنفاً جنسياً منهجياً مارسته الميليشيات القومية الصربية بحق السكان البوشناق، وكانت وظيفته استئصالية وتتمثل في هز علاقة السكان بالمناطق التي يعيشون فيها، ودفعهم إلى مغادرتها عبر تصويرها مسرحاً لاغتصاب النساء البوشناقيات.

التقرير الأممي الذي وُزع عشية انتهاء مفاوضات آستانة قال إن في سورية عنفاً جنسياً منهجياً، وأشار إلى القوات الحكومية، وفي مكان آخر إلى «داعش»، وبما أن التنظيم خارج نطاق المفاوضة في آستانة وفي غيرها، يبقى على المرء أن يتأمل في حال المفاوضات وقد جلس على منصتها طرف يقول التقرير الأممي أنه يمارس عنفاً جنسياً منهجياً.

من المؤلم فعلاً أن يُوضع سوريون على طاولة مفاوضة مع طرف لم يوفر نوعاً من أشكال القتل إلا استعمله في سياق حربه عليهم. وهو طوّر أشكال القتل عبر خيال خصب على هذا الصعيد. فالحرب في سورية أنتجت قاتلاً «مُبدعاً» وسباقاً. البراميل المتفجرة التي تلقيها الطائرات نموذج عن علاقة النظام برعيته، ذاك أن البراميل لا تصلح لحرب جبهات، لأن أهدافها غير الدقيقة ليست مقاتلين متحركين، إنما مدنيون يسقط البرميل في شكل عمودي فوق رؤوسهم. وفي فكرة البرميل، يتكثف الحقد ويتحول فعلاً سياسياً على طاولة المفاوضات. مفاوض النظام يقول: هذا أنا وهذه قوتي. أسلحة كيمياوية وبراميل متفجرة، وأخيراً عنف جنسي منهجي. وكل هذا موثق بتقارير أممية لا يرقى إليها شك.

«داعش» فعل ذلك في المدن التي حكمها. العنف الجنسي المنهجي أخذ شكل سبي نساء هناك. وهو استعاض عن فكرة السقوط العمودي للبرميل المتفجر من السماء إلى الأرض، بسقوط عمودي مواز، يتمثل بإلقائه مواطنين عُصاة عن سطوح المباني. لكن «داعش» لم يُدعَ إلى طاولة مفاوضة. هو عدو مطلق للبشرية، ولا مكان له في قاعات البحث عن مستقبل. وهنا تكمن القسوة الممارسة بحق السوريين، أي في عدم اعتبار عدوهم الآخر، أي النظام، عدواً مطلقاً. يُمكن أميركا وأوروبا أن تعتبراه عدواً مطلقاً لقيمهما، وهما قالا ذلك، وكرراه. لكن على السوريين أن يكونوا «واقعيين» ويفاوضوا من ترفض أميركا وأوروبا مفاوضته.

ليست هذه دعوة إلى مغادرة طاولة المفاوضات سواء في آستانة أم في جنيف، إنما لعرض القسوة التي تنطوي عليها طاولة المفاوضات تلك، ولعل ذروة هذه القسوة أن يجلس مفاوض في مقابل ممثل النظام بشار الجعفري. ففي وجه ذلك الرجل، تتكثف ملامح التعالي التي ترمز إليها كل أساليب القتل التي يُمارسها جيشه في سورية. هو وجه أبو مصعب الزرقاوي في مشهد ذبحه رهينة، مع فارق غير طفيف، يتمثل في أن الأخير يحمل سكيناً بيده، فيما الثاني يعقد ربطة عنق من دون أن يُخفي سكينه عن أحدٍ.

في هذه اللحظة، تشهد مفاوضات آستانة اختراقاً. روسيا تعلن عن مناطق آمنة ومحظورة على الطيران، وتُلمح إلى إمكان انسحاب الميليشيات الإيرانية في مرحلة أخرى من الهدنة. وتركيا تطلب من المعارضة السورية القبول بأن تكون طهران طرفاً في مراقبة تطبيق الهدنة في حربٍ هي طرف فيها!

الإرهاق بدأ يظهر على وجوه الجميع. القاتل مرهق أيضاً، وأكلاف الحرب في ظل الاختناق الاقتصادي والأثمان البشرية بدأت تُثقل عليه. النظام في أسوأ أيامه على ما يبدو، ونقطة قوته الوحيدة اقتناع العالم بأن المعارضة عاجزة عن أن تكون بديلاً، لا بل عاجزة عن أن تنتظم في سياق من التسوية التشاركية. وهذه هي صورة الاختناق السوري، واختناق العالم في سورية.

توزيع التقرير الأممي عن العنف الجنسي المنهجي جاء تتويجاً لمفاوضة بين نظام قاتل على نحو معلن، ومعارضة مفلسة ومُرتهنة كشفت أطراف فيها عن أنها سليلة قيم النظام وشبيهته إذا ما قُيض لها أن تحل محله.

المُغتصَبة والمُغتصَب السوريان خارج ذهول العالم من النظام القاتل. فالقيم اهتزت حين شطبت صور غاز السارين في خان شيخون وجه العالم. لا صور للعنف الجنسي المنهجي الذي أشار إليه التقرير الأممي أخيراً. إذاً، لا ذهول ليرافق توزيع التقرير. الذهول لم يُحدثه الفعل، أي القصف بغاز السارين، إنما أحدثته حقيقة أن العالم عاين ما حصل.

هذا درس لنا جميعاً في لعبة موازين القوى. فالسياسة في الحروب هي أن تملك القدرة على تحمل مفاوضة قاتلك. أن تجلس في مقابل بشار الجعفري، وأن تصاب بالنعاس أحياناً. أن لا تغضب من أن العالم اكترث لضحايا الكيماوي ولم يكترث لضحايا الاغتصاب المنهجي. ففي المرة المقبلة، وهي مقبلة لا محالة، عليك أن تُصور الاغتصاب كما صورت ضحايا غاز السارين.

هنا تنتصر الضحية، حتى لو كان المفاوض عنها على هذا المقدار من الارتهان. الضحية حين تحول الصُراخ والألم إلى طاقة لاستدراج العالم إلى موقعها، تُحقق اختراقاً لا يستطيع تحقيقه مفاوض مقيد بشروط مستتبعيه. لطالما نجح سوريون في فعل ذلك، ولطالما سقطت فصائل إسلامية معارضة في التماهي مع النظام.

قال بنيامين نتانياهو عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى: «إن الفلسطينيين نجحوا في تصويرنا للعالم بأننا قتلة، وهكذا انتصروا علينا». أفعال النظام في سورية فاقت بمئات الأضعاف أفعال الجيش الإسرائيلي في تلك المرحلة. النظام في سورية أقل حساسية حيال «الضمير العالمي»، لكن ما كشفته خان شيخون هو أن لا أحد محصن، وأن تصدعاً أصاب منظومة القتل نتيجة ذهول العالم. إنه تصدع لن يطيحها، لكن مفاوضات آستانة كشفته.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: حازم الأمين
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ