«داعش» وحده يملك استراتيجية
«داعش» وحده يملك استراتيجية
● مقالات رأي ١٩ ديسمبر ٢٠١٤

«داعش» وحده يملك استراتيجية

من بين كل القوى المتصارعة في سورية وعليها، وحده تنظيم «داعش» يمتلك استراتيجية واضحة ومحدّدة حيال الحاضر والمستقبل. يتطلع إليهما كما هما، ويعمل على جعلهما كما يجب ان يكونا. يظهر ذلك من خلال أداء مقاتليه في العراق وسورية بالمقارنة مع أداء أعدائه الكثيرين.

ذاك أن النظام العراقي لم يفعل شيئاً خلال السنوات التي تبوأ فيها نوري المالكي رئاسة الحكومة إلا تعبيد الطريق أمام أكبر حالة إلتفاف سنّي وراء تنظيم «القاعدة»، الذي صار لاحقاً تنظيم «داعش». أتى ذلك بعد حرب ضروس بين الصحوات والمجاهدين انتهت بتسليم الأخيرين مفاتيح مناطق لا يستهان بها من العراق. اللااستراتيجية العراقية، إذاً، تسببت بتحول تنظيم القاعدة إلى تنظيم «داعش» الذي باتت وحشيته المطلقة تستدعي، للمفارقة الساخرة، الترحم على سماحة سلفه!

في سورية، وعلى رغم أن بعض الوقائع الطافية على سطح مسرحها الحربي قد تشي بأن نظامها اتّبع استراتيجية متسقة منذ بداية الأزمة، فالتدقيق قليلاً في العمق سيظهر خلاف ذلك. فإذا كانت غاية النظام منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية استمرار إمساكه بمقاليد الحكم، فإن ما قام به حتى الآن أدى إلى عكس هذه النتيجة تماماً. لقائل ان يقول: لكنه ما زال الحاكم الأوحد، وهذا صحيح، إلا أنه الحاكم لكيان مختلف كثيراً وأصغر بأشواط ومستقبله غير مضمون بالمرة، مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبيل آذار (مارس) 2011. فلا الحل الأمني أعاد الناس إلى بيوتهم. ولا إخلاء السجون من قياديي السلفية الجهادية أقنع العالم بعقد حلف معه في مواجهة إرهاب هؤلاء المتفاقم. هذا ولم يساهم إدخال الميليشيات الإيرانية الحرب سوى بتسليم رقبة النظام لمرشدها الأعلى.

أمّا إيران، وبصرف النظر عمّا تروجه بعض المنابر الإعلامية لبطولات قائد حرسها الثوري قاسم سليماني في ميادين العراق وسورية، فإزاحة نوري المالكي من الموقع التنفيذي الأول في العراق، فضلاً عن خسارة نظام الأسد حكم سورية الحديدي، يثبتان ان ما قيل عن إستراتيجية «حائك السجاد» ما هي إلا تعبير عن افتقار خصوم إيران الى إستراتيجية في مواجهتها. بكلمات أخرى، الفراغ الإستراتيجي، الإقليمي والدولي، في مواجهة إيران، أتاح لها الظهور بمظهر مالك الإستراتيجية. ولا أدل على ذلك إلا ردود فعلها الجنونية حيال بلوغ أسعار النفط القعر الذي بلغته، ما بدّد الإيجابيات المالية الناجمة عن رفع بعض العقوبات عنها.

كذا الأمر بالنسبة إلى ميليشياتها المقاتلة، لا سيما حزب الله. إذ مع كل يوم قتالي جديد في سورية، تزداد خسائر الحزب الإستراتيجية، على رغم مساعيه الدؤوبة لتضخيم بعض نجاحاته التكتيكية، التي ستجني إيران لاحقاً غنمها، ولن يكون نصيب الحزب منها إلا الغرم.

الأمر نفسه ينطبق على الأدوار العربية في سورية. ذاك أن الأخيرة وبتجلياتها كافة لم تنجح خلال سنوات الحرب الأربع في بناء موقع عربي راسخ قد يكون له دور تقريري في مستقبل سورية. على العكس، أسهمت الأدوار العربية في بناء مواقع متصارعة على لوحة تتداعى قطعها، الواحدة تلو الأخرى.

تقييم الدورين الأميركي والروسي لا يختلف منهجياً عن نقاش الأدوار السالفة الذكر. إذ، على رغم كونهما الدولتين العظميين الفاعلتين في سورية، فأداؤهما يكاد يقارب أداء الدول الصغرى فيها. أميركا، تارة تتحدث عن «القيادة من الخلف»، وطوراً تعود إلى الحديث عن «القيادة من الأمام»، وقد استقرت أخيراً عند «القيادة من الجو»! أمّا روسيا، فما كادت تظن أنها تربح في سورية حتى جاءتها الخسارة من أوكرانيا، حديقتها الخلفية. كما أنها، إلى جانب حليفتها إيران، من أكبر المتضررين من تراجع أسعار النفط العالمية. فبحسب وزير ماليتها انطون سلوانوف تخسر روسيا نحو 40 مليار دولار سنوياً من العقوبات، ومن 90 الى 100 مليار أخرى بسبب تدني اسعار النفط.

بالإنتقال إلى لبنان، وهو متلقٍ سلبي لنتائج السياسات الإقليمية والدولية أكثر ممّا هو فاعل فيها، يظهر ان دولته تقف أمام هول الأحداث بلا حول ولا قوّة. فلا هي قادرة على رسم سياسات فاعلة لاحتواء تداعيات اللجوء السوري، ولا هي قادرة على احتواء التداعيات الأمنية لتلاقي حمم حربه مع حروب الآخرين. جيشها يتخبط بين ضغط حزب الله عليه لخوض حربه في لبنان، وضغط تيار المستقبل عليه لعدم الانخراط في حرب ضد السنّة. وقصارى القول إن العجز اللبناني تعبير عن اللااستراتيجية في مواجهة كل شيء.

في كتابه الصادر بعد 11 أيلول (على الإنترنت)، «إدارة التوحش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، يقسم المنظّر القاعدي أبو بكر ناجي التاريخ كما يراه المجاهدون إلى ثلاث مراحل: مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، مرحلة إدارة التوحش، ثم مرحلة شوكة التمكين وإقامة الدولة.

وحـــــســـب هـــذه التـــرسيمة الإستراتيجية، والتفاصيل الواردة في الكتاب، يظهر أننا نعيش اليوم مرحلة «إدارة التوحش» تحت قيادة «داعش». فكل ما نعيشه لا يعدو كونه ردّاً على محاولة التنظيم الانتقال من هذه المرحلة إلى مرحلة «شوكة التمكين»، أي إقامة الدولة، التي ربّما يكون الخليفة أبو بكر البغدادي قد تسرّع في إعلانها، كمحاولة لقطف ثمار بلوغ المظلومية السنية أعلى ذراها.

إستراتيجية «داعش» في تحقيق ذلك واضحة: قطع رؤوس الكفار والمتعاونين معهم. وهو لا يخفي ذلك، تعبيراً وتنفيذاً. وما الرؤوس المتطايرة في كل مكان، إلا التعبير الأمضى عن نجاح استراتيجية التنظيم حتى اللحظة. والحال أن الفراغ الإستراتيجي في مواجهة الأخير، لا يمكن سدّه إلا بإستراتيجية شعبية لإبقاء الرؤوس حيث يجب ان تكون. وهذه، لا تزال، مجرّد احتمال، تحوم فوقه شكوك كثيرة.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: حسن الحاف
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ