أسطورة داريا
أسطورة داريا
● مقالات رأي ٢٩ أغسطس ٢٠١٦

أسطورة داريا

ما كان أحد يتوقع صمود أهالي داريا، أو من تبقى منهم (حوالي خمسة أو ستة آلاف من أصل ربع مليون)، كل هذه المدة، أي طوال أربعة أعوام بأيامها ولياليها، في مواجهة ظروف قاسية وصعبة، وتحت طائلة القصف بالطائرات والمدفعية، مع إخضاعهم للحصار المشدد، إذ أن هذه المدينة الصغيرة التي تقع في الجنوب الغربي من دمشق، والقريبة إلى أهم المعاقل العسكرية للنظام (مطار المزة العسكري)، بقيت صامدة وصابرة وشامخة، رغم عزلتها وقلة إمكانياتها، أكثر مما هو منتظر منها.
لا تتوقّف أسطورة داريا على ما حقّقته في صمودها العسكري غير المسبوق، فحسب، وتسجيلها أروع صور الصمود والتضحيـة والتحـدي، رغـم البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات، ورغم سلاح التجويع، إذ أنها فوق ذلك كانت المدينة التي تفرّدت، تقريباً، بميزات كثيرة، ما جعل كثيرين يعرّفونها باعتبارها درّة الثورة السورية، والمثال الذي كان ينبغي أن يحتذى به، وهي تستحق ذلك عن جدارة.

ما ينبغي معرفته أن داريا هي من أولى المدن التي خرجت المظاهرات فيها، منذ بداية الثورة السورية (مارس 2011)، وأنها تمسّكت بالفعاليات السلمية إلى أقصى حد، وبمعاملاتها مع جنود النظام باعتبارهم إخوة في الوطن، بتقديم المياه والورود لهم، وقدم الشهيد غياث مطر ثمن ذلك من حياته، علما أن هذه المدينة لم تذهب نحو خيار الدفاع العسكري إلا بعد ارتكاب النظام مذبحة كبيرة فيها ذهب ضحيتها المئات (في العام 2012). أيضا، ومنذ البداية، تمسك ثوار داريا بخطاب الثورة وبمقاصدها الأساسية المتعلقة بالحرية والكرامة والديمقراطية وإنهاء الاستبداد، العلماني والديني، وقد ترجمت ذلك برفضها دخول “جبهة النصرة” وأخواتها، و“الغرباء”، وتجار السلاح والأدعياء إليها. وإضافة إلى كل ما تقدم فقد قدمت داريا نموذجاً في الإدارة الذاتية بانتخاب هيئة محلية، تخضع كل ما يجري لقراراتها، سواء على الصعيد المدني أو العسكري، وهذا ما ميّزها عن المناطق الأخرى التي أخفقت في إيجاد بدائل مناسبة للسلطة.

لعل هذا كله يفسّر إصرار النظام وحلفائه، طوال الفترة الماضية، على قتل داريا، فهو في الحقيقة أراد قتل روح الحرية والكرامة والصمود التي تبثّها هذه المدينة في سوريا كلها، وتالياً قتل الأسطورة التي تسطّرها، وقتل نموذجها النبيل الذي يدحض كل ادعاءاته، وذلك بانتهاجه سياسة التدمير الممنهج ضدها، لإبادتها بشراً وحجراً، بل وإزالة معالمها نهائيا.

كما يفسر ذلك أن التسوية التي تم عقدها لم تقتصر على انسحاب المقاتلين (حوالي 700 مقاتل)، فقط، منها، إذ أنها شملت خروج، والأصح إخراج، كل من تبقى فيها من مدنيين، أي أننا إزاء عملية تهجير (ترانسفير) إجباري، يتم تحت علم الأمم المتحدة، بحيث أن هذا يصبّ في إطار عملية التغيير الديمغرافي التي جرت في حمص وتجري في دمشق (بعد ما حصل ذلك في الزبداني ومخيـم اليرمـوك والتقدم والتضامن والحجـر الأسود والقصير ويبـرود)، لتحصيل ما يسمى بـ“سوريا المفيدة”.

في هذا الإطار لن ننسى، بالطبع، أن داريا قتلت أيضا عندما اهتم البعض من الأمراء العسكريين في المعارضة باستعراضات الألوية والكتائب واستغلال اسم الله لحرف الثورة عن مطلب الحرية والديمقراطية، والاشتغال بإزاحة النشطاء السلميين مثل؛ رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حماد ووائل حمادي (المختطفين في الغوطة الشرقية)، ناهيك عن انسحاب هذه الفصائل العسكرية المعارضة من القصير والنبك والضمير (حوالي دمشق)، وعدم القيام بأي عمل لنجدة مخيم اليرموك أو الزبداني، أي أن ما حصل في داريا كان تحصيل حاصل لكل ذلك.

من جانب آخر، ربما من المفيـد ملاحظة أن ما جرى في داريا يأتي في إطار التموضع الجديد للقـوى الدوليـة والإقليميـة المتصـارعة على سوريا، في ضوء التفاهم الأميركي – الروسي، وبالتزامن مع تحجيم الدور الإيراني، والدخول التـركي على الشمال السوري، من بوابة جرابلس، وفق تفاهمات تركية ـ أميركية ـ روسية.

والفكرة هنا أن النظام بعد خسارته في الشمال السوري، إثر التطورات الحاصلة بنتيجة الدخول التـركي على الخـط، وانحسار الدور الإيراني، يحاول إحراز مكاسب بديلة في دمشق وما حولها لتعزيز وضعه، ووضع حليفه الإيراني، والمعنى من ذلك أن ما جرى في داريا ربما يكون بمثابة بداية للهجوم على معاقل المعارضة في محيط العاصمة، ولا أحد يعرف مدى استعداد المعارضة العسكرية لمواجهة مثل هذا التطور، وهي التي تركت داريا أمام مصيرها دون أن تفعل شيئاً.

داريا هي قصة للبطولة والمأساة، وهي تختصر حكاية السوريين، والمدن السورية، التي تم تدميرها بالبراميل المتفجرة، والتي تمت استباحتها من قبل الطيران الروسي والميليشيات المذهبية الموالية لإيران، والتي يراد تغيير خريطتها الديمغرافية. وبحسب تعبير لمراسل “فرانس برس”، سجل هذه اللحظة، ثمة “قهر كبير بين السكان…ذهبت الأمهات بالأمس إلى المقابر لوداع الشهداء، إنهن يبكين على داريا أكثر مما بكين حين سقط الشهداء”، لذلك فإن هذه القصة لم تنته بعد. داريا في القلب.

المصدر: صحيفة العرب الكاتب: ماجد كيالي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ