أكراد سوريا يسعون نحو الحكم الذاتي بشتى الطرق
أكراد سوريا يسعون نحو الحكم الذاتي بشتى الطرق
● مقالات رأي ٣١ مايو ٢٠١٧

أكراد سوريا يسعون نحو الحكم الذاتي بشتى الطرق

قد تتسامح سوريا وروسيا والولايات المتحدة حيال هذه الفكرة، لكن من الواضح أن لتركيا رأي آخر - بعيداً عن العناوين الكبرى، ثمة أمر لافت يجري داخل سوريا، ذلك أنه على ما يبدو قرر أخيراً الأكراد، الذين يسعون منذ أمد بعيد للسيطرة على منطقة تحظى بالحكم الذاتي، أن الرهان الأفضل أمامهم يتمثل في شراء هذه المنطقة من الرئيس السوري بشار الأسد. أما الولايات المتحدة، فتصدر إشارات ضمنية مفادها أنها قد توافق على ذلك، في انعكاس صادم لسياستها الصديقة تجاه روسيا، المعادية لتركيا.

تبدأ الأدلة التي تثبت صحة هذه القراءة للأحداث من المعركة الوشيكة حول الرقة، مقر تنظيم داعش. فقد أفادت تقارير أن ما يطلق عليه «قوات سوريا الديمقراطية»، جماعة مظلة لمقاتلين تهيمن عليها قوات من أكراد سوريا تعرف باسم «وحدات حماية الشعب»، حصلت على ضوء أخضر للمضي قدماً، ليس من جانب الولايات المتحدة فحسب، وإنما كذلك الأسد وروسيا. ويعد هذا تطوراً لافتاً بالنظر إلى الخطة المتعلقة بالرقة، حال نجاح القوات التي يقودها الأكراد في السيطرة عليها. والمتوقع أن يجري تحويل مسؤولية إدارة شؤون المدينة إلى مجلس محلي، سيعمل بدوره على التوافق مع الأسد، ويعيد إلى نظامه السيادة المفقودة.
و
التساؤل هنا: ما السر وراء هذا التحول في موقف الأكراد من أبناء سوريا، الذين شاركوا في المقاومة المسلحة ضد نظام الأسد؟
ت
تمثل الإجابة الأكثر احتمالاً في أن الأكراد السوريين يأملون في إبرام مقايضة مع الأسد. أما النتيجة المرغوبة من جانبهم، فبناء منطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتي، أو شبه الذاتي، داخل سوريا.

جدير بالذكر أن الترويج لفكرة حصول الأكراد على منطقة يتمتعون داخلها بالحكم الذاتي يعود إلى ديسمبر (كانون الأول) 2016، عندما وردت في مسودة روسية للدستور لسوريا ما بعد الحرب. وفي مارس (آذار)، أثارت جماعة يهيمن عليها الأكراد ضجة حول إعلان حكومة إقليمية لمنطقة تتمتع بالحكم الذاتي داخل واحدة من المناطق التي جرى الاستيلاء عليها من أيدي تنظيم داعش.

أما سابقة مثل هذا الترتيب، فوقعت بالعراق. هناك، استمرت منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، كانت الولايات المتحدة قد أنشأتها من خلال فرض منطقة حظر جوي في عهد إدارة بيل كلينتون، في الوجود حتى انطلاق جهود بناء العراق الجديد، في أعقاب الغزو الذي شنته إدارة جورج دبليو. بوش. واليوم، أصبحت هذه المنطقة جزءاً من الدستور العراقي.

ولا بد أن أكراد سوريا يتطلعون نحو النموذج العراقي، ويأملون في أن يفعل الأسد المثل. أما الأسد من جانبه، فإنه بالتأكيد لن يرغب في التنازل عن السيادة عن أرض سوريا، تماماً مثلما كان الحال مع القيادات العراقية بالنسبة للمنطقة التي يسيطر عليها الآن الأكراد العراقيون. بيد أنه مثلما الحال مع العراقيين العرب، لا يملك الأسد خياراً آخر، خصوصاً أنه في حاجة ماسة إلى حلفاء يعاونونه على استعادة المناطق الواقعة خارج سيطرته. في الوقت ذاته، فإن الأكراد السوريين أنفسهم متلهفون للسيطرة على المناطق الخاصة بهم هم أيضًا.

وفي تحول مفاجئ لمسار الأحداث، لا يمكن وقوعه إلا في الشرق الأوسط، يبدو الأكراد السوريون مفيدين في الوقت ذاته بالنسبة للولايات المتحدة التي تسعى بدأب لإظهار أنه من الممكن إنزال الهزيمة بـ«داعش». ويعتبر الأكراد القوة البرية الوحيدة تقريباً التي تبدي استعدادها، وتملك القدرة لمواجهة «داعش» داخل سوريا. وعليه، يبدو أن إدارة دونالد ترمب، التي تتولى تسليح «وحدات حماية الشعب»، قررت بالفعل إقرار خطة تسليم السيطرة على الرقة إلى الأكراد.

ويشكل هذا تحولاً عن الموقف الأميركي عام 2016، عندما أشارت إدارة باراك أوباما إلى أنها لا تدعم نيل الأكراد السوريين للحكم الذاتي. وتضع هذه الظروف أكراد سوريا في موقف قوة يحظون في إطاره بدعم النظام السوري، وحليفته روسيا، وكذلك الولايات المتحدة. جدير بالذكر أن هذا يعني فعلياً أن الولايات المتحدة وروسيا تتعاونان لاستعادة سيطرة الأسد على مناطق داخل سوريا. أما تركيا، فتبقى القوة الإقليمية الكبرى الوحيدة المعارضة بقوة لطموحات أكراد سوريا.

من جانبها، تنظر تركيا إلى «وحدات حماية الشعب» باعتبارها وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، الجماعة الكردية المسلحة (وتوصف بعض الأحيان بالإرهابية) التي حاربت لسنوات طويلة من أجل حقوق الأكراد، وربما الحكم الذاتي داخل تركيا ذاتها. وبالتأكيد ليس في مصلحة تركيا ظهور منطقة كردية تنعم بالحكم الذاتي داخل سوريا، بالتوازي مع أخرى في العراق، عارضها الأتراك بادئ الأمر. ومثلما هو واضح، فإن هذا الترتيب يشير ضمنياً بقوة إلى ضرورة ظهور منطقة كردية مشابهة تتمتع بالحكم الذاتي داخل تركيا هي الأخرى.
إلا أنه في المقابل، لا تتمتع تركيا بنفوذ يمكنها من التأثير على الأسد الذي عارضته منذ اشتعال المقاومة المسلحة ضده.

في الوقت ذاته، تفتقر تركيا حاليًا إلى القدرة على التأثير على الولايات المتحدة، حليفتها التقليدية داخل حلف «الناتو». ولا يتعلق ذلك بانزلاق رجب طيب إردوغان المستمر نحو الديكتاتورية، الأمر الذي لم يثر غضباً كبيراً من جانب إدارة ترمب، وإنما يرتبط باهتمام واشنطن المستمر بإلحاق الهزيمة بـ«داعش»، الأمر الذي دفعها على ما يبدو للتخلي عن هدف إسقاط الأسد، بغض النظر عن جميع التصريحات الصادرة عن الإدارة منذ قصفها أهدافاً سورية في أعقاب الهجوم بالغاز السام الذي شنه الأسد.
و
التساؤل الذي يفرض نفسه هنا: هل ستنجح مبادرة أكراد سوريا للحصول على موافقة الأسد على تمتعهم بالحكم الذاتي؟ المؤكد أن الخطة برمتها تقوم على سلسلة من المقامرات. والواضح أن جميع الأطراف المعنية بسوريا تعمد إلى استغلال الأكراد لمصلحتها، وهم من جانبهم يدركون ذلك جيداً. وفي ظل الظروف المثالية التي قد يحلم بها الأسد، فإن بمقدوره الانتظار حتى يستعيد السيطرة على مساحات واسعة من البلاد بمعاونة الأكراد، ثم ينكث بعهده بالموافقة على فكرة تمتعهم بالحكم الذاتي. وبالتأكيد يعي الأكراد ذلك جيداً. والآن، لا بد أنهم يراهنون على أن الأسد لن يصبح أبدًا ذات يوم بقدر من القوة تمكنه من سحب أي مستوى من الحكم الذاتي يمنحه إياهم، أو أن يصبح تمتعهم بالحكم الذاتي جزءاً من اتفاق نهائي بدعم من الولايات المتحدة وروسيا.
أ
ما الولايات المتحدة، فليس ثمة سبب محدد يدعوها لدعم أكراد سوريا بعد هزيمة «داعش»، لكن قد يرى الأكراد أن رغبة الولايات المتحدة في وجود أسد منهك ضعيف، في إطار أي صفقة نهائية، فكرة منطقية تماماً. وعليه، فإن تمتع الأكراد بالحكم الذاتي سيسهم في إضعاف الحكومة السورية. في المقابل، سترغب روسيا بالتأكيد في وجود سوريا قوية لذات الأسباب التي ترغب من أجلها الولايات المتحدة في وجود سوريا ضعيفة.
إل
ا أن الأمر الذي يكاد يكون في حكم المؤكد أنه لن ينبثق من كل هذه الظروف، كردستان موحدة عبر الحدود العراقية - السورية. في الواقع، لطالما شكلت الوحدة الكردية هدفاً صعب التحقيق. الملاحظ أن الأكراد العراقيين ازدادوا قرباً من تركيا على مدار العقد الماضي، وتخلوا عن حزب العمال الكردستاني مقابل بناء علاقات أقوى مع دولة جارة تتميز بقدر أكبر من الاستقرار عن حكومة بغداد، بل ربما لا يدعمون مسألة قيام منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، بقيادة قوات «وحدات حماية الشعب»، ناهيك عن الانضمام إليها.

وإذا بدا كل ما سبق غامضاً على نحو يتعذر تصديقه، فذلك لأنه هكذا بالفعل. داخل الشرق الأوسط، يبدو الخط الفاصل بين الفانتازيا والواقع السياسي رفيعاً على نحو خطير. وأحيانا تتحول الفانتازيا إلى حقيقة - وإن كان هذا لا يكون دوماً أمراً جيداً.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»

المصدر: الشرق الأوسط الكاتب: نوح فيلدمان
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ