أنماط الاعتقال السورية من وجهة نظر الأهالي
أنماط الاعتقال السورية من وجهة نظر الأهالي
● مقالات رأي ١٤ نوفمبر ٢٠١٤

أنماط الاعتقال السورية من وجهة نظر الأهالي

تجارب السورريين في الاعتقال والتغييب كبيرة وممتدة على جيلين، بما يكفي لمحاولة تصنيفها، ولاستخلاص دلالات سياسية منها، ولإصدار حكم أخلاقي في شأنها. يعتمد التصنيف المقدم هنا على موقع ذوي المعتقلين ومعرفتهم بمصير أحبابهم المغيبين.

ولا ريب في أن من شأن تجميع منظّم للمعلومات وتحليلها أن يؤسس لتصنيف أدق من هذا التصنيف الأولي، المعتمد على الخبرة الشخصية.

نمط الاعتقال الأول هو التوقيف من قبل جهة معلومة والحجز في مكان معلوم، أو يُعلم بعد وقت قصير، مع إمكانية مبدئية لزيارة الأهالي للمعتقلين، لكن من دون إجراءات قضائية فورية تتلو الاعتقال. كان هذا حال المعتقلين اليساريين في سنوات حكم حافظ الأسد. اقترن نمط الاعتقال هذا بالتعذيب التحقيقي، وبدرجة أقل بالتعذيب العقابي بعد التحقيق. لكن المجهول الكبير هنا هو موعد الإفراج عن المعتقلين، إذ يمكن أن يطول أمد البقاء في السجن سنوات طويلة، أكثر من أحد عشر عاماً في حالتي الشخصية بين كثيرين آخرين. وهو ما يجعل الاعتقال جريمة بحق الأهالي، وليس بحق المعتقلين وحدهم. جريمة لأن المعنيين من دون استثناء لم يرتكبوا جرماً يُحبسون عليهم عاماً واحداً. من اعتقلوا بعد إحالتنا إلى محكمة أمن الدولة في ربيع 1992، مثلوا بعد وقت قصير أمام تلك المحاكم الاستثنائية. هذا بالطبع يخفف من قلق الأهالي. لكن، كان شائعاً ألا يفرج عن المعتقل عند إنهاء سنوات حكمه.

يتمثل النمــط الثاني في الاعتقال من جهة معلومة، ويكون المعتقلون في مكان معلوم أو غير معلوم، ومن دون إمكانية الزيارة. هذا كان حال المعتقلين الإسلاميين في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته.

اقترن هذا النمط بالتعذيب التحقيقي الأشد، وبالتعذيب الانتقامي المستمر طوال سنوات الاعتقال التي امتدت أحياناً عشرين عاماً أو أكثر. والعذاب النفسي للأسر ليس أقل.

وقد وقع من بين معتقلي الإسلاميين الألوف قتلى، إن نتيجة المرض والتعذيب، أو لأنهم أعدموا، وهذا من دون إعلام أسرهم في كل حال، ومن دون تسوية ما يترتب على ذلك من مسائل قانونية واجتماعية.

أما النمط الثالث فهو اعتقال تقوم به جهة غير معلومة، لكنها عامة، «الدولة»، ويُحتجز المعتقلون في مكان غير معلوم، ومن دون إمكانية الزيارة. هذا ينطبق على أكثر معتقلي الثورة منذ ربيع 2011. لا يعرف الأهالي الجهاز الأمني أو الميليشيوي الذي اعتقل فرداً أو أفراداً من الأسرة، وقد يطرقون أبواب أجهزة متنوعة، تنكر كلها وجودهم عندها. كان مثل هذا يحصل في الثمانينات والتسعينات حتى بخصوص المعتقلين اليساريين، لكن كان ينجلي الأمر عموماً بعد وقت لا يطول كثيراً.

اليوم، أثناء الثورة لا يُعرف مكان اعتقال أكثر المعتقلين، وليس دائماً تعرف بالضبط الجهة التي اعتقلتهم. منهم مثلاً الطبيب محمد عرب المعتقل منذ ثلاث سنوات، وعبدالعزيز الخير ورفيقاه منذ أكثر من عامين، وفائق المير وجهاد أسعد محمد منذ أكثر من عام، وناصر بندق المعتقل في شباط (فبراير) من هذا العام، وغيرهم كثيرون. وكانت هذه حال وائل حمادة وقت اعتقاله من جانب جهاز الاستخبارات الجوية عام 2011.

المشترك في الأنماط الثلاثة السابقة أن النظام هو فاعل الاعتقال، وإن لم يكن معلوماً دوماً أي وكالات من وكالاته القمعية هي الفاعل المباشر.

بعد الثورة السورية وخروج مواقع من سيطرة النظام، انكسر احتكار النظام للعنف والسلاح، وظهرت أشكال جديدة من الاعتقال ومن فاعليه.

ونميز هنا أيضاً بين ثلاثة أنماط أو أربعة. أولها، اعتقال تقوم به جهة معلومة، تشكيل عسكري أو «قضائي» («هيئات شرعية»)، قلما يحوز استقلالاً فعلياً عن التشكيلات العسكرية، ويكون المعتقلون في مكان معلوم من جانب الأهالي، مع إمكانية الزيارة. ويتعلق الأمر غالباً بموقوفين جنائيين. ولا نعلم مثلاً واحداً عن معتقلين لأسباب سياسية عند أي من السلطات الكثيرة القائمة اليوم في الأرض السورية، تتيح لهم الزيارة والدفاع القانوني المستقل.

ثانيها، هناك حالات تكون الجهة الخاطفة معلومة، ولا يندر أن تقود ضغوط، مسلحة أحياناً، أو وساطات أو مفاوضات، إلى الإفراج عن المخطوفين بعد حين يطول أو يقصر. هناك غير حالة معلومة في هذا الشأن في الغوطة الشرقية.

وكيان «داعش» طليعي في هذا الصنف من الجرائم، لكن لا يُعلم مكان المعتقلين، ولا تتاح الزيارات لأهاليهم، ولا تتوافر عن أوضاعهم ومصيرهم أية معلومات. هذه حال عبدالله الخليل وفراس الحاج صالح وإبرهيم الغازي والأب باولو دالوليو ومحمد نور مطر وإسماعيل الحامض وغيرهم كثر.

على أن أشهر أنماط الاعتقال هنا هو الخطف من جهة غير معلومة (لا تعلن مسؤوليتها عن الفعل)، وتحبس المخطوفين في مكان غير معلوم، من دون إتاحة معلومات عن المختطفين. هذه حال سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي المختطفين منذ أكثر من 11 شهراً في دوما في الغوطة الشرقية.

وهذه جريمة بحق أهالي المخطوفين بمقدار ما هي جريمة بحق المخطوفين أنفسهم. وهي من جهة ثانية جريمة مستمرة ومتجددة كل يوم من حيث إننا، ذوي المخطوفتين والمخطوفين، لا نعلم شيئاً عن مصيرهم. لدينا ترجيحات قوية، بل قطعية، عن الجناة، لكن هؤلاء مستمرون في الإنكار والتعتيم التام.

ونستخلص من هذا العرض الوجيز ثلاث نتائج.

أولاً، بما أننا عشنا مع الاعتقال والتعذيب والتغييب طويلاً، وتشكلت من هذه التجارب حياة وموت جيلين منا، فلعله ليس هناك حقول للمعرفة أولى بالاهتمام لدينا من «علوم» السجن والتعذيب والخطف والقتل (في شأن القتل، أحيل إلى مقالتي: أنماط الموت السورية، مصنفة حسب القاتلين: http://therepublicgs.net/32725)، أعني التفكير في هذه القضايا ببنيتها الخاصة، وبدلالاتها الاجتماعية والسياسية، والفكرية، وليس فقط من زاوية حقوقية.

وفي المقام الثاني نلحظ أن انكسار احتكار «الدولة» العنف يمكن أن يكون ثورياً، وقد كان لبعض الوقت في سورية، وعلامته توجيه السلاح حصراً ضد النظام المعتدي ولمصلحة المجتمع الثائر، ويمكنه أن يكون لا ثورياً أو تدميرياً، ويغلب أن يكون كذلك حالياً، حيث العنف موجه ضد المجتمع أساساً. وما يفتح أبواباً لتفكير أكثر جذرية بأن عنف «الدولة» لم يكن يوماً عنفاً عاماً، مجرداً عن حيثيات المعنّفين ومنضبطاً بقواعد عامة. لقد كان عنفاً ملموساً، انتقامياً، ممتزجاً بالكراهية، وطائفياً في الغالب.

وأخيراً، ليست قضايا الخطف والتعذيب والاعتقال والقتل قضايا سياسية عادية، نتناولها سريعاً ونستخلص منها بعض الدلالات، ثم نمضي لشأن آخر. إنها مؤشرات حاسمة على أننا نوغل في الهمجية، وبتسهيل إقليمي وعالمي، وشراكة إقليمية عالمية. ومن هذا الباب تقول هذه القضايا شيئاً سيئاً عن سورية، وتقول شيئاً بالسوء نفسه عن العالم.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: ياسين الحاج صالح
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ