إرهاب الجماهير سلاح الديكتاتورية للبقاء
إرهاب الجماهير سلاح الديكتاتورية للبقاء
● مقالات رأي ٢٥ أكتوبر ٢٠١٤

إرهاب الجماهير سلاح الديكتاتورية للبقاء

■ لا يزال يحلو لبعض اليساريّين أن يرفعوا البطاقة الحمراء في وجه من يرى في الديمقراطية قضية ملحة في العملية النضالية، للوصول إلى وطن حر وديمقراطي. البطاقة الحمراء هنا هي تهمة جاهزة في جيب «الحَكَم» مكتوب عليها أنك من «الزمرة المعجبة والمروجة لأفكار الغرب»، وأنك «تتماهى مع أفكار المستشرقين وتخدم سياسات الولايات المتحدة ومصالحها».
الرد البسيط وغير المعقد، على هؤﻻء الرفاق الأعزاء، ذوي الأحكام القاطعة بطبعهم، يكمن في المفارقة التالية:على الرغم من أن التاريخ الحديث للولايات المتحدة (والغرب عموما)، غارق في الدعاية للحرية والديمقراطية اللتين تبشر بهما، إﻻ أنّ أمريكا منذ أن سيطرت على مفاصل الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، لم يُشهَد لإداراتها المتعاقبة سوى دعمها المطلق لنظم اﻻستبداد والقمع في المنطقة. عدا عن دعمها المطلق لإسرائيل (الديمقراطية لذاتها والعنصرية القمعية ضد الآخر).
لقد عملت أمريكا جاهدة لدعم نظم الاستبداد العربية وأجهزتها الأمنية المدرّبة، بغرض صدّ وإبعاد أي تطور ديمقراطي في المنطقة العربية قد يشكل تهديداً لمصالحها، بل بالإمكان القول إن الغرب عموماً خان تاريخياً طبقة البرجوازية العربية، وشوه تطوّرها الطبيعي، ومنع هذه الطبقة من التمثيل السياسي لصالح قوى التسلط وممثلي قوى ما قبل الرأسمالية، وﻻحقا قوى الكمبرادور ورأس المال المتحالف مع الحكم التسلطي والعسكري، وهي القوى التي احتكرت النفوذ والسلطة السياسية على نحو شبه كامل، عن طريق الوراثة أو التوريث وهما سيّان.
الموقف الأمريكي المعادي للبرجوازية الوطنية والديمقراطية السياسية ظهر جلياً في أمريكا اللاتينية والجنوبية أيضاً، وفي غيرها من المناطق، بل إنّ أمريكا تورطت أحياناً بشكل مباشر ومفضوح ضد ثورات ذات طابع ديمقراطي وزعمائها مثل؛ مصدق وأليندي وتشافيز (والأخير فشلت محاولته الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري ونجح في الوصول إليها عبر صناديق الاقتراع ووسائل الديمقراطية البرجوازية).
أين نحن؟
السؤال الجوهري هنا: هل تعيش الدول العربية في ظل نمط وعلاقات إنتاج رأسمالية متكاملة، لتصبح عندها الديمقراطية البرجوازية رجعية، أو ضربا من التاريخ وأداة من أدوات الرأسمال في تحرير العبيد والفلاحين ليصبحوا عمالاً يستغلهم الرأسمال؟ أم إننا نعيش في ظل نمط علاقات ما قبل التطور الرأسمالي المكتمل، أو نمط من التطور المشوه، أو المسخ الفاسد، أو المتأخر، بعيداً عن أن يكون رأسماليا كلاسيكيا كما في الدول المتقدمة، صناعة وإنتاجا، حيث تصبح الديمقراطية لديها «رجعية ومزيفة»؟
في مراحل التطور التاريخي السابقة للرأسمالية، أو الرأسمالية المشوهة، أو الخداج، أو المتأخرة، تكون الديمقراطية البرجوازية ثورية، وأكثر نضالية وواقعية مما يسميه بعض الثوريين من مسميّات كالديمقراطية الشعبية، والاشتراكية وغيرها، تبريراً لرفضهم للديمقراطية البرجوازية، اعتمادا على الفهم الضيق للشعار الماركسي حول «ديكتاتورية البروليتاريا».
السؤال المطروح الراهن، وهو موجه لأولئك الثوريين: هل من الممكن النظر إلى تحقيق الديمقراطية البرجوازية باعتبارها مهمة ملحة في مواجهة التسلط في بلداننا، بدل الاكتفاء بالادعاء بأنها محض ترف غربي ومستورد ﻻ يناسبنا، وهو ما تدّعيه أيضاً النظم التسلطية التي تتستر أحيانا بالأصولية الدينية لتبرير شرعيتها؟
نحن في مرحلة تاريخية عاثت فيها أنظمة الحكم العربية فساداً في بلدانها، وأجهضت النمو والتطور الطبيعي للأوطان، حتى نحو الحداثة والرأسمالية الناضجة، وخلقت أنماطاً مشوهة للإنتاج وعلاقاته، وعززت البناء الفوقي اللازم لاستمرار هيمنتها على أسس من الإغراق في التخلف. وكذلك سخرت الفكر الديني الأشد تطرفاً لهذا الغرض (مقابل الفكر الدينيّ الصوفي أو الوطني). كل ذلك تم ويتم بتحالف، ومن موقع التبعية، مع القوى الإمبريالية، التي بدورها ضمنت لهذه الأنظمة عروشها وحكمها، طالما أنّها تخدمها وتحقق لها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية. لقد فشلت الأنظمة العربية كافّة بتلاوينها المختلفة في القضية الوطنية، وفشلت في التصدي للعدوانية الإسرائيلية، وآخرها العدوان الهمجي على غزة.
لقد جاءت حركة الجماهير العربية المطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية في بلدان الربيع العربي مفاجئة للجميع، وأرعبت الغرب الداعم تاريخيا لأنظمة اﻻستبداد والحكم الفردي المطلق العربية، سواء قامت على الأساس الملكي الوراثي أو الجمهوري المزور، والمزين بنسبة نجاح تصل إلى ما يقارب المئة بالمئة. لقد فاجأت حركة الشارع العربي الوﻻيات المتحدة والرجعية على حد سواء، بقدر ما فاجأت اليسار العربي والمعارضة التي لم تكن جاهزة لقيادة حركة الجماهير.
رياح التغيير كانت جامحة عابرة للحدود. لم تتحرك القوى الاستعمارية والرجعية لاحتواء حركة الربيع العربي فحسب، بل تحركت كذلك كافة قوى اﻻستبداد وحكم الفرد والعائلة والعشيرة والعسكر وقوى الإسلام السياسي، الأقوى نفوذا في الشارع.
كما تحركت كذلك الأنظمة القومية المتناقضة مع أمريكا في سياستها الخارجية وفي مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها كانت من بعيد فاقدة لثقة شعوبها، خائفة دوما من الجماهير، وقامعة لحرياتها وطاقاتها الخلاقة حتى في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الوطن. لم تسمح هذه الأخيرة للجماهير بأن تناضل ضد المحتل كما فعلت المقاومة اللبنانية الباسلة في تحرير أراضيها التي لا ينكر أحد أن سوريا دعمتها، طالما بقيت المقاومة ضد الاحتلال بعيدة عن الأراضي السورية.
والمثير للاهتمام والاستغراب هنا حقيقة أن امتداد رياح التغيير لتصل بعض الأنظمة الاستبدادية «الحليفة» القائمة على حكم وتقديس الرئيس الفذ، فاقت قدرة بعض الرفاق على الاستيعاب، فظهروا مدافعين عن هذه الأنظمة وأساليبها البشعة في قمع الحركة الجماهيرية، حتى عندما كانت سلمية وتنادي بالإصلاح. هنا أضحت المسألة عندهم مؤامرة ﻻ ربيعا عربياً. وتبنوا، بل تطابقت مواقفهم مع موقف النظام، متناسين أن التحالف مع قوى قومية في معركة يحكمها تناقض خارجي، لا يلغي النضال والانحياز للجماهير في نضالها السياسي والمطلبي ضد السلطة الحاكمة (التناقض الداخلي).
المؤسف أن أصوات بعض المتمركسين ارتفعت لتبرير قمع الجماهير وذبحها، وجهود النظام السوري والرجعية العربية وعسكرة الصراع، التي قادت إلى أن تؤول الأوضاع في سوريا إلى ما هي عليه الآن. بعض هذه الأصوات علت جهارا لتقول إن ما جري في الربيع العربي أُعدّ في واشنطن ونفّذ في بلداننا، والبعض حوّل المعركة إلى معركة فكرية ضد الإخوان المسلمين، حتى في البلدان التي لم يكونوا بها في السلطة، وقد أعماه عداؤه المطلق لبعض قوى الإسلام السياسي المتفوّق، كما يبدو، على عدائه للأنظمة الحاكمة منذ عقود والتي عاثت في الأرض فسادا. والأشد إثارة للحزن أن بعض هذه الأصوات كان ولا يزال، ومن باب المزايدة أو العجز أو الجمود العقائدي، يتذرع بحجة رفضه المبدئي للديمقراطية البرجوازية، لأنها زائفة ومن صنع الرأسمالية، وأنه ورفاقه لن يرضوا للجماهير بأقل مما سموه بالديمقراطية الشعبية أو الديمقراطية التشاركية أو الاشتراكية.
لقد فوت اليسار العربي فرصة الانسجام مع حركة الشارع، ولعب دور تاريخي في المساهمة في تنظيم حركة الجماهير، ولربما فوت الفرصة أيضا لقيادتها بالتحالفات المناسبة، ولو مع قوى دينية خارج السلطة في تحالف ميداني، على أساس المهام الملحة، من أجل الديمقراطية وصناديق الاقتراع، بدل إقحام الجماهير بمعارك دون كيشوتيه، تحرفها عن الشعار الذي صدحت به حناجرها في القاهرة وتونس «الشعب يريد إسقاط النظام» و»يسقط يسقط حكم العسكر» و»خبز وحرية وعدالة اجتماعية».
لا أدري إذا كان قد فات الأوان على موضوع هذه الكتابة، فالمعركة محتدمة وقد وصلت المأساة – الملهاة إلى أن دولاً عربية لا تكاد تكون معروفة على الخريطة الجغرافية أو السياسية، بدأت تشن حربا على دول عربية أخرى بتواطؤ واضح مع أمريكا بحجة محاربة «داعش». والأنكى أن ذلك يخطط له ليستمر على مدار عدة سنوات ـ وهو ما يساوي زمنيا المدة التي تمت بها هزيمة ألمانيا النازية وليس «داعش». زعماء الدول العربية لم يعلموا شعوبهم بالحرب. فمثلا كان رئيس وزراء الأردن يصرح قبل مدة قصيرة أن الأردن لن يخوض معارك الآخرين.
الكوميديا هي أن رئيس الدولة المعتدى عليها، وهي سوريا، الذي يعول عليه أحد الكتاب الأردنيين بأنه سيلجم الدوائر السورية التي تغمز باتجاه التحالف، يعتبر أن قصف الطائرات لبلده خطوة في الاتجاه الصحيح، إذا قام التحالف بمجرد إعلامه بذلك فقط. لقد أضحت البلدان العربية تقسم طائفيا وعرقيا ويمينا ويسارا وشمالا وجنوبا، وتنتهك الأعراض وتؤخذ السبايا، وما يزال البعض من الثوريين يتجاهل أن الاشتراكية نشأت ووجدت من أجل الإنسان وحريته ورفاهه.
أساس الإرهاب ليس فكرياً، بل طبقيا. فهو ينشأ ويتطور في ظل التمايز الطبقي، ونهب الثروات وإفقار الريف، وينمو في ضواحي البؤس والشقاء، في ظل دول تحكمها عائلات حاكمة تنهب وتجمع الثروات الخيالية، وتعادي الديمقراطية لأنها ستكون أداة في أيدي الجماهير للخلاص منها وإلى الأبد. إن الفكر ليس إلا انعكاساً للواقع، ومحاربة الفكر الإرهابي ﻻ تكون إلا بالنضال السلمي ضد الاستبداد والحكم المطلق والتمايز الطبقي عبر الديمقراطية والحرية، وضد العسكرة والقتل.
تريد الدكتاتورية لصوت السلاح أن يقعقع وللدماء أن تسيل حماية واستمرارا لحكمها وبقائها، وبذلك ربما ترهب الجماهير وتبعدها عن شعارها في الربيع العربي العظيم: «خبز وحرية وعدالة اجتماعية».

المصدر: القدس العربي الكاتب: د. سمير سماوي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ