إطلاق النار على الشاشات
إطلاق النار على الشاشات
● مقالات رأي ٥ سبتمبر ٢٠١٦

إطلاق النار على الشاشات

في الحديث عن الكارثة السورية، تمكننا العودة كل يوم إلى ما قاله الكواكبي في «طبائع الاستبداد»، من أن «الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته».

ومع تدحرج كرة الدم السورية واتساعها بفضل حلفاء الأسد، يصير الحديث عن الاستبداد وتشريح بنيته ضرورة فكرية، خاصة بعد أن أتاحت إدارة أوباما لبوتين في الملف السوري هذا الظهور العسكري الفج في الساحة السورية، ليبدو كقيصر جديد لروسيا.

مستبد أول يرفض التنازل ويتحالف مع مستبدين، مستبدون بيدهم جيوش وحاملات طائرات وآلاف الجنود، ومعارضة مسلحة لم تمتلك حتى اللحظة مضاد طيران.

إعلامياً، مازالت المناقشات السياسية تميل لمناقشة الخبر السوري المستمر، بينما تروي وقائع الأرض آلاف الحوادث المرعبة، حوادث تستند في عمقها إلى هذه القاعدة الاستبدادية التي ساندت الطاغية المستبد وأطالت في عمره حتى الآن.

روى لي صديق إعلامي حوادث هائلة الدلالة لم يسمع بها الإعلام، حوادث إطلاق النار على شاشات التلفزيون من قبل عناصر وجنود وشبيحة وموالين لنظام الأسد، وذلك عندما كانوا يشاهدون سقوط تماثيل حافظ الأسد وصور بشار في عدد من المناطق السورية في أعوام 2012 و2013 و2014، وكلهم كانوا يتابعون القنوات العربية الإخبارية لمعرفة الخبر السوري، لكنهم عندما كانوا يرون سقوط رمزهم المستبد وتحطيم تماثيله تحت أرجل الناس لم يجدوا أمامهم سوى شاشات التلفزيون ليطلقوا عليها النار انتقاماً وتثبيتاً لسلطة أرادت طوال عقود حكمها أن تكون هكذا، عبارة عن رصاص ونار.

هنا أيضاً ينسى الإعلام البحث عن إيريك فروم وهو يحلل في كتابه «تشريح التدميرية البشرية» سيكولوجيا الطغاة من هتلر إلى ستالين.

وهنا أيضاً تصير العودة إلى الفيلسوفة الأميركية ذات الأصل الألماني هنه أرنت ضرورة أخلاقية، وهي تعرفنا في مناقشتها لبنية الشمولية والاستبداد كيف يكون شخص نازي مثل إيخمان الذي قبضت عليه إسرائيل وحاكمته، عبارة عن منفذ أوامر في بنية استبدادية جعلته يرى حرقه ملايين اليهود في ألمانيا فعلاً لا علاقة له به شخصياً.

وأيضاً هناك كتاب ممدوح عدوان «حيونة الإنسان» الذي استمد بعض أحداثه من وقائع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تصير المجازر لذة لطغاة صغار دخلوا أتون هذا اللهب والسعير.

كل عنصر مسلح عند الطاغية يرى نفسه طاغية، كل ضابط، كل موالٍ، كل شخص موال لنظام الأسد هو أسد صغير، وتتدحرج كرة الدم ويرى كل هؤلاء الطغاة الكبار والصغار أن من يتخلى عن السلطة الآن يموت ولن تعود السلطة إليه أبداً.

عندما مات باسل الأسد في 21 كانون الثاني (يناير) 1994 في حادث سير، في ذلك اليوم رأيت عاملاً سورياً قروياً موالياً يعمل في تلك الأيام 12 ساعة في اليوم ليحصل على أجر يبلغ 150 ليرة، رأيته يبكي أمامي ويتمنى لو أنه خسر أولاده الشبان الخمسة ولم يسمع بخبر موت باسل.

وحين وقع المثقفون السوريون «بيان 99» بعد توريث السلطة لبشار الأسد مطالبين بإصلاحات سياسية، شاهدت صحافياً موالياً كان يشرف على ملحق ثقافي يضرب الطاولة بيديه ويصرح في ممرات الجريدة مطالباً بمحاسبة كل من وقّع على هذا البيان.

من هنا يمكن مثلاً أن نتعرف إلى البنية العميقة للاستبداد، حيث يصير المستبد راعياً ومنتجاً لقطيع كامل من المستبدين. وتفكيك هذه البنية معرفياً جزء لا يتجزأ من مهمة تنظيف العقل الإنساني وتنويره.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: مصطفى علوش
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ