الألمان والسوريون بين قطارين
الألمان والسوريون بين قطارين
● مقالات رأي ١٠ أكتوبر ٢٠١٧

الألمان والسوريون بين قطارين

في أواخر الثلاثينات، وتحديداً بعد آذار (مارس) ١٩٣٨، شق قطار طريقه من ألمانيا والنمسا، باتجاه منافي الأرض كلها. قطار توالت رحلاته، وتزايدت فيه أعداد الفارين، الذين سيغدون لاجئين في شتى بقاع الأرض. ألمان يفرون من ألمانيا، ونمساويون يهربون من النمسا، وبولنديون من بولندا.

وكان من جملة هؤلاء أديب ألمانيا العظيم الألماني الكاثوليكي توماس مان، وأديب اللغة الألمانية الأبرز اليهودي النمساوي شتيفان تسفايغ الذي كتب: «ولما اجتاز القطار حدود النمسا عرفتُ، كما عرف لوط، في الكتاب المقدس، أن ما خلفته ورائي كان غباراً ورماداً ماضياً تحوّل إلى عمود من الملح».

وسيحدثنا كيف أنه بعد مغادرته بفترة وجيزة لن يُصدم، ولن يتفجع عندما سيبلغه خبر وفاة أمه، بل على العكس سيشعر بما يشبه السكينة، لأنها أصبحت في مأمن من المعاناة والخطر. ففي سنها المتقدمة (الرابعة والثمانين) كانت مضطربة السير، معتادة في تمشّيها اليومي المجهد أن ترتاح على مقعد في الشارع، أو في الحديقة كل بضع دقائق، غير أن النازيين أصدروا في فيينا قانوناً يمنع اليهود من الجلوس على المقاعد العامة، «ومن حسن الحظ أن أمي جُنّبت معاناة هذه القسوة والهوان إلى الأبد».

لقد وثّق لنا الأرشيف السينمائي، والنصوص الأدبية، والمذكرات والشهادات عن تلك الفترة حال ركّاب هذا القطار ومآلهم، وسبب ركوبهم إياه. ولن أجد أفضل من تسفايغ نفسه يقصّ علينا خبر هؤلاء الفارين، ويسرد لنا دواعي رحلتهم وبواعثها:

«أُرغم أساتذة الجامعات على تنظيف الشوارع بأيديهم العارية، وجُرّ متدينون يهود بيض اللحى إلى المعبد وسط صيحات الاستهزاء، وأجبروا على ممارسة تمارين الركبة، وعلا الهتاف معاً: «سلاماً هتلر». وفي الشوارع أُوقع الناس الأبرياء في الأشراك مثل الأرانب، وسيقوا كالقطيع لتنظيف مراحيض ثكنات وحدات العاصفة».

وهكذا بدأ الناس الأكثر رهافة باستشعار الخطر، وبحس تقدير الموقف بالهروب والفرار:

«كانت كل مجموعة تبدو تعيسة ومذعورة أكثر من سابقتها، فالمجموعات الأولى التي أسرعت في مغادرة ألمانيا والنمسا أفلحت في إنقاذ الملابس والأمتعة وأثاث المنزل، بل إن بعضها كان معه بعض المال، وأما الذين وضعوا ثقتهم في ألمانيا، وصعب عليهم انتزاع أنفسهم من وطنهم الحبيب، فقد عوقبوا أشد العقاب.

جُرّد اليهود أولاً من وظائفهم، ومنعوا من ارتياد المسارح ودور السينما والمتاحف، وحُرم الأساتذة من استعمال المكاتب، ومع ذلك لم يغادروا البلد إما إخلاصاً أو تراخياً، وإما جبناً أو كبرياء. لقد آثروا الذل في الوطن على ذل التسوّل خارجه، ومنعوا من استخدام أحد، وأخذت أجهزة الراديو والهواتف من منازلهم، ثم أخذت المنازل ذاتها، وفرضت عليهم نجمة داود علامة يعرفون بها، وجرى تجنبهم والهزء منهم كالمجذومين، ثم طُردوا وجُرّدوا من حقوقهم القانونية. لقد سحبت منهم الحقوق كلها، ومورست عليهم كل أنواع القسوة الروحية والجسدية بكل سادية عابثة (...) ومن لم يغادر ألقي به في معسكر اعتقال حيث كان الضابط الألماني يسحق حتى أشد الناس إباء، ثم كان يُدفع إلى الحدود بعد سلبه كل شيء سوى حقيبة ظهره، وعشرة ماركات في جيبه».

على أن هذه الحالة المفجعة ستشهد انحداراً مهولاً، في تسارع زمني ساحق، وسيغدو قطار الرحيل قطار ترحيل، ترحيل كائنات تشبه البشر، شاحبة السحنات، متسخة الوجوه، غائرة العيون، زائغة النظرات، مشقّقة الشفاه، مذعورة مقهورة، حائرة خائرة، تساق في أرتال، وهي بكامل الاستسلام والإحباط، كقطيع من البقر المهزول، إلى العربات... «.

وسينعم القدر على تسفايغ، كما أنعم على أمه، بألا يشهد هذا التحوّل الرهيب، وسيكتب التاريخ أن الأديب الأصدق والأروع بين أدباء عصره لم يحتمل العيش شريداً في المنافي، فانتحر هو وزوجته إليزابيث شارلوت تسفايغ في مدينة تبروبوليس البرازيلية في 23 شباط (فبراير) 1942.

أما الحزب النازي فكان في تلك الآونة يظن أنه يعيش لحظة من أهم لحظات الفكرة والتنفيذ، والخيار والقرار. لحظة إحلال «التجانس» الخالص الصافي بين أفراد المجتمع الألماني الطاهر، ذي الأرومة النقية المصفّاة تكويناً وتلويناً من بين كل الشعوب، وكرمى عيون هذا «التجانس» كان لا بدّ لـ «شعب الأرض المصطفى» أن يبيد «شعب الله المختار».

ولكن! هل كان المواطن الألماني في فترة «قطار هتلر»، يدرك، ولو تخيلاً، أنّ هذا القطار سيغدو قطاراً يحتضن المترقّب الخائف، المختلف ديناً وعرقاً ولساناً وهوية، القادم من خارج أوروبا إلى قلب ألمانيا، فيكون قطار أمل وبشرى؟

هذا ما حدث حين أوعزت المستشارة الألمانية مركل في 2015 لكل الدول المحيطة بألمانيا أن تسخّر قطاراتها في خدمة جموع هؤلاء الفارين من أتون بلدانهم، كما فرّ يهود ألمانيا في لحظة غفلة من الضمير الألماني، وفي لحظة عمى أخلاقي مطبِق.

ورصدت الكاميرات مرة أخرى ذلك القطار المكتظ بالأطفال والنساء والشيوخ والشباب القادمين من سورية، والطافح بالقادمين باسمهم من بقية الدول المحيطة بها.

كان هؤلاء الفارين منهكين، ملابسهم رثة، ملطخة، مبقّعة، أحذيتهم مثقّبة مشلّعة، وكان معظمهم يعرجون بأقدامهم الملتهبة المتقيحة، وكانت معظم الوجوه قد لفحتها الشمس وضربتها الرياح فغدت مسمرّة تعلوها غبرة وقترة، ولكن العيون فقط كانت ترسل بريقاً يشع أملاً، وإشعاعاً يلمع رجاء.

لقد فرّ هذا السوري للأسباب نفسها التي فر من أجلها الألماني قبلاً. فالنظام الأسدي البعثي لم يجد من بين كل القمصان أليق به من القميص النازي فتقمصه، ولا أجدر منه نسخة فتناسخ، بل تفاسخ، بل تواسخ من خلاله.

كلاهما مبني على حزب قومي اشتراكي. كلاهما يسعى إلى فرض «التجانس». كلاهما يملك محرقة. كلاهما مؤسس على عبادة الزعيم وتأليهه.

أما أتباع هتلر فكانوا يردّدون بالحرف الواحد: «هتلر أعظم من المسيح».

وأما أتباع حافظ فكانوا يدبكون وينشدون: «حيّدوا نحن البعثية حيّدوا/ حافظ أسد قبل ألله منعبدو». وأما أتباع الابن بشار فكانت حمائمهم تهدل: «الله... سورية... بشار وبس»، فيما كانت هراوات صقورهم تتكسر على أجساد ضحاياهم، وهم يزعقون بكل غضب الدنيا والآخرة: «مين ربك ولاك؟»، وكان يفترض بالضحية التي تعالج سكرات الموت أن تنطق شهادتها الأخيرة قبل أن تغادر الحياة: «بشار ربي، ولا أشرك به أحداً».

ومثلما فرّ المضطهدون الألمان من أمام غول النازية، فرّ المضطهدون السوريون من أمام ضبع الأسدية البعثية. ركبوا البحر، ولم يخشوا من الغرق، فما عاد أمامهم من خيار سوى الفرار، واستوى لديهم في شكل مطلق اليأس والأمل، الموت والحياة.

ركبوا البحر وهم موقنون أن فرصة النجاة والحياة لا تزيد عن فرصة الغرق والموت شروى نقير، ومع هذا رأوها قسمة عادلة، مقارنة ببقائهم تحت رحمة نظام لا يعرف الرحمة.

وإذا كان هتلر هو الرجل الذي أحدث في العالم من الشر ما لم يحدثه رجل آخر عبر العصور السابقة، فإن بشار الأسد هو الذي أحدث في سورية من الشر ما لم يحدثه رجل آخر عبر العصور السابقة واللاحقة.

وكما أن أوروبا راحت ضحية شهوة رجل فرد للسلطة، فإن سورية راحت ضحية شهوة رجل واحد للسلطة، وضحية شهوة أفراد عائلته لكل ما يتفرّع عن هذه السلطة بلا استثناء مهما بدا تافهاً أو حقيراً.

لقد كان الضمير الألماني في ذروة درجات صحوه، وكانت عينه الأخلاقية في أوج تفتحها وإبصارها يوم قدّرت أن هذا اللاجئ السوري الهارب من بطش نظامه هو صنو اللاجئ الألماني، وأنه لا يمحو عار ذلك القطار السابق الذي كان تابوتاً وقبراً، إلا قطار لاحق يغدو رحم حياة، وبوابة أمل ورجاء لفاقدي الأمل والرجاء. قطار عناق بين الشعوب، وتعارف وتعاضد ومواساة.

وهذا ما حصل. فعلى طول طريقه ومحطاته بين الدول والبلدان والبلدات كانت الجموع البشرية من المسعفين والمتطوعين في المنظمات الإنسانية والخيرية إضافة إلى عموم أفراد الشعب الأوروبيين ينثرون التحيات، والابتسامات، والعناق، والاحتضان، وعبوات المياه، ووجبات الطعام، والفواكه، والحلوى، والملابس، والأحذية، ولعب الأطفال، وكانت فرحة هؤلاء الأوروبيين تضاهي فرحة الأسرة بمولود قادم جديد! وكأن لسان حالهم يقول: لئن كانت الإنسانية تحشرج في مكان فإنها تتبرعم وتزدهر في مكان آخر.

لقد شهدت البشرية في زمنين متقاربين قطارين: قطار التياع، وقطار ارتياح. قطار هتلر، وقطار مركل، وعسى أن يمحو القطار الثاني عار الأول.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: محمد أمير ناشر النعم
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ