التطبيع مع المأساة والموت كدافع للحياة!
التطبيع مع المأساة والموت كدافع للحياة!
● مقالات رأي ٢٨ أغسطس ٢٠١٨

التطبيع مع المأساة والموت كدافع للحياة!

لو أردنا أن نعرف التكيف الاجتماعي، لأمكننا الايجاز بأنه "عملية اجتماعية، تتضمن نشاط الأفراد أو الجماعات وسلوكهم، الذي يرمي إلى التلاؤم والانسجام، بين الفرد وغيره، أو بين جملة أفراد وبيئتهم، أو بين الجماعات المختلفة".

ولو نظرنا إلى الوضع السوري في الداخل، سنجد أن السوريين، تجرعوا مرارة التغيير القسري في حياتهم اليومية، ساعة فساعة، وأزمة تلو ازمة، إلى أن وصلوا إلى حالة هي أقرب ما تكون، إلى التشوه في آليات التكيف والاعتياد، هذه الحالة تفرضها نزعة أصيلة لدى الانسان، في الحفاظ على الحياة، والاستمرار في المقاومة.

فالقتل اليومي وتحول الأحياء المدنية إلى ساحات حرب لا تتوقف، وصور الجثث الملقاة في قارعة الطريق، وروائح الأحياء المشبعة بالدم والموت، والبارود والحرائق التي لا تكاد تنطفئ، وطغيان صوت البراميل المتفجرة، وصوت الرصاص الذي لا يتوقف. كل هذا هشم النمط المعتاد للحياة القديمة، التي كان يعيشها الانسان السوري، قبل الحرب شر تهشيم، واحالها إلى أنماط متوحشة من الحياة، والقفز المستمر على حسك الموت، واحتمالات لا تنتهي لمزيد من التردي نحو الأسوأ.

بالطبع المشهد من الخارج أشد وضوحا، وأنقى انفعالا، فالمنغمس في هذه الدوامة إنما تجرعها عقدة إثر عقدة، وانكساراً تلو انكسار، وبالتالي تكيفت مشاعره ومنعكساته النفسية والعصبية وتطوعت درجة إثر درجة، إلى أن اضحى كل ما دون الموت أمر يمكن التعاطي معه.

هذا بالضبط ما حدث معنا، في الحياة الطويلة في سجن تدمر، ففي المرة الأولى التي سمعنا بها، أن هناك عملية إعدام لعدد غير قليل من المعتقلين، وكان ذلك في الشهر العاشر من عام 1980، حيث دوى صوت الضابط، رئيس المحكمة الميدانية في الساحة السادسة كنعيب الغراب، آمرا عناصر السجن أن خذوهم للإعدام، وما هي إلا دقائق، حتى سمعنا صوت أقدامهم، تعبر الساحة السادسة جريا، تلاها صوت تكبير وحشرجة على أعواد المشانق، ثم صوت الدعامات الخشبية، تهوي أرضا بمن علقوا عليها، ثم صمت طويل، كان خلالها ضابط كبير يشرف على تصوير الضحايا، كيما يتمتع بها سيده القابع في قصر قاسيون.

يومها جلسنا منكمشين على أنفسنا، لا نغادر أماكننا في المهجع، ولم ينتبه أحد إلى دخول الطعام، وبقائه بعيدا لا تمسه الايدي، فمن ذا الذي يملك أدنى رغبة بطعام بعد هذه الفاجعة، أعدموا يومها ما يزيد عن ثمانين شابا، وتدور الأيام وتستمر عمليات الإعدام، كل أسبوع تقريبا لكن تتبدل وتنخفض سويات الانفعال، مع كل مرة جديدة، إلى أن أتى يوم بعد قرابة العامين، حيث كنا نجلس إلى قصعة الإفطار، فنودي على اسم حسن بركات ليتجهز للإعدام، فانتصب واقفا وكان يجلس إلى يميني، وما هي إلا دقائق ثلاثة، حتى كان مقيدا معصوب العينين يساق إلى المشنقة التي تنتظره، وكنا نعاود الجلوس بذات اللحظة، إلى قصعة الإفطار لنكمل ما بدأناه من وجبتنا، ونحن نهمهم بصوت منخفض رحمه الله.

هذا التحول الكارثي في تكيفنا مع المأساة المستمرة، عزز من قدرتنا على الاستمرار في الحياة، وربما كان سببا مهما لبقائنا أسوياء، لكنه بذات الوقت شوه جملة كبيرة من المنعكسات الطبيعية، التي تتمظهر بالحزن على الضحايا، أو بمنح هذا الحزن مساحة من الزمن في دقائقنا اليومية.

وهذا شبيه إلى أقصى درجات التشابه، ببعض التفاصيل اليومية التي يعيشها السوريون، في الداخل السوري، سواء في مناطق سيطرة النظام، أو خارجها، فجميع المناطق تستقبل القتلى المحمولين، من مواقع القصف أو القتال، وجميعها تستمر فيها أشكال الحياة، بآليات متنوعة من التكيف المعزز للبقاء، والذي يجعل من المأساة الطويلة، حالة طبيعية في سيرورة الحياة اليومية، إلى زمن غير معلوم، كنا نكرر في تدمر كل يوم، أن أكبر مشكلة، هي أننا لم نعد مشكلة لأحد.

ومن مرارة الشأن السوري اليوم، أننا والعالم من حولنا، نتكيف تدريجيا، بحيث أن القضية السورية، لم تعد مشكلة لأحد، وأن مجزرة ارتكبها الطيران الروسي بالأمس القريب، باتت أمرا عاديا، لم تعلق عليه معظم وكالات الأنباء. وربما من المهم أن نلاحظ، أن التكيف ليس بقيمة إيجابية، إلا بمعنى البقاء، وأن البطولة التي نعتز بها، في مقاومة شطر كبير من أبناء فلسطين، لفكرة الاحتلال والتطبيع معه، إنما هي رفض للتكيف والانصياع للظرف الراهن.

من هنا سيكون من المهم والمهم جدا، مراقبة البوصلة والاتجاهات التي تملى علينا كسوريين، والتي نقبل بعضها رغبة بوقف المقتلة، لكنها بذات الوقت هي تطوعنا وتكيفنا وفق مقتضياتها، فبئسا لهذا التكيف.

المصدر: مدونات الجزيرة الكاتب: محمد برو
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ