التهجير الديمغرافي.. هل يغير وجه المنطقة؟
التهجير الديمغرافي.. هل يغير وجه المنطقة؟
● مقالات رأي ٤ مايو ٢٠١٨

التهجير الديمغرافي.. هل يغير وجه المنطقة؟

لم يكن حتى أشد المتشائمين يتوقّع حصول تغيير ديمغرافي بهذا الحجم الذي تشهده سوريا. أغلب التوقعات انصبت على بطش نظام الأسد والثمن الذي سيدفعه السوريون جراء ثورتهم، مع الاعتقاد بأن تلك الأثمان سيجري تعويضها بسقوط الطاغية، وبالتالي لن تكون سوى مرحلة قاسية وتنتهي.

تدحرجت الأحداث بشكل دام ومؤلم، وحصلت عمليات تدخل إقليمية ودولية، واستخدمت منظومة الأسد كل أنواع الأسلحة، بما فيها الكيماوي. وفي ظل هذا المشهد، ومن خلال كثافة دخانه، تكشّف العنصر الأبرز في هذه الحرب، والممثّل باستراتيجية اقتلاع السوريين من وطنهم.

بدت الفكرة في البداية على أنها ضرب من العبث وسياسة غير ناجحة، فمن يستطيع تهجير أكثرية واللعب بتوازنات طائفية يستحيل اللعب فيها، واعتبر الكثيرون أن هذه السياسة فاشلة حكما، إما لقيامها على فرضيات خاطئة، من نوع أنه كلما تم الضغط على البيئة الحاضنة باستخدام أشد أساليب العنف زاد منسوب هجرة هذه البيئة وبحثها عن خيارات بديلة، وإما لأن هذه السياسية تقوم على حسابات غير منطقية، ذلك أن العالم لن يقبل بحصول مثل هذه الكارثة ويدعها تمر هكذا دون ردة فعل.

وهكذا، بينما كان الطرف الآخر (إيران وحزب الله ومنظومة الأسد) يبني سياساته، على أفعال ووقائع يصنعها على أرض الحدث، ونتيجة دراية بالبيئة الدولية المتهالكة، كان أنصار الثورة ومؤيدوهم يتخبطون من الصدمة؛ غير مصدقين ما يحدث، ويرمون أحلامهم على رهانات من نوع أن نظام الأسد، وقبل أن يكمل تهجير مليون سوري، سيكون على عتبة السقوط، بل والأرجح في هذه الحالة أن تنعكس العملية، ويصار إلى تهجير البيئة المؤيدة له.

بالطبع، لم ينتبه أحد في حينها إلى أن إيران كانت قد نفذت عملية تهجير ديمغرافي واسعة في العراق، وفي غضون أقل من خمس سنوات، بعد احتلال العراق 2003، كان وجه بغداد قد تغيّر واستطاعت المليشيات تهجير مئات الآلاف من السنة عبر عمليات التصفية والتهديد التي اتبعتها، ثم بعد سنوات كانت محافظة ديالى الواقعة على خط التماس الطائفي في العراق؛ تشهد عملية تفريغ مماثلة، ومثلها الكثير من مدن وأرياف العراق.

وفي التاريخ غير البعيد أيضا، هجّرت روسيا الملايين من سكان جمهوريات البلطيق، وأحلّت مكانهم مواطنين (روس)، وفعلت الشيء نفسه في القوقاز (في جورجيا والشيشان وأرمينا، وغربا في أوكرانيا، وجعلت هذا الأمر يتحوّل إلى واقع حطّم النسيج الوطني لأوكرانيا وجورجيا، ووضع دول البلطيق (لاتفيا وأستونيا ليتوانيا) على حافة الخطر الدائم، واحتمالية تدخل روسيا بذريعة وجود جالية ومواطنين روس.

وقد دمجت روسيا، خبرتها السابقة في مجال التهجير والإحلال، مع الجهود الإيرانية، لتنتج بذلك الكارثة السورية بوجهها الحالي. فقد تعمد الطرفان استخدام سياسة التدمير الممنهج وأقصى أنواع العنف، فضلا عن سياسات إنهاك المجتمعات المحلية في سوريا ودفعها عنوة للبحث عن سبل للخلاص، خارج سوريا أو في مناطق سيطرة النظام؛ الذي سيعمل لاحقا على إعادة توزيعهم في مناطق يجري تحديدها بناء على حساباته الأمنية الخالصة.

غير أن نمط التهجير المتبع في سوريا، والأدوات والسياسات التي يتم استخدامها في هذا المجال، يحيل إلى التجربة الصهيونية في فلسطين المحتلة، بل إنه في أحيان كثيرة يبدو تطبيقا أمينا لتلك التجربة، وخاصة في تعمّد قتل الأطفال والتهديد بانتهاك الأعراض، والأهم إشاعة الفوضى وسقوط القانون الذي يضمن حق المواطن في الحماية، وفي الحالتين، الفلسطينية والسورية، كان للمليشيات الدور الأبرز في إنجاز مهمة التغيير الديمغرافي.

واليوم في فلسطين، تتجرأ إسرائيل على إقرار قانون يهودية الدولة، الذي يهدّد بقذف مليونين من عرب الداخل خارج وطنهم وديارهم. ورغم حقيقة أن إسرائيل كانت تعمل على الدوام للوصول إلى هذه النتيجة، غير أن عمليات التهجير الكبيرة الحاصلة في سوريا والعراق، شكلت محفزا لها ودافعا قويا للقيام بجريمتها القادمة، وخاصة أن رد الفعل الدولي على تلك العمليات كان معدوما، بل إنه لم يظهر صوت واحد ينادي بوقف عمليات التهجير تلك، في حين أن أغلب التدخلات الدولية جاءت احتجاجا على امتلاك نظام الأسد أسلحة كيمائية قد تهدّد في يوم ما إسرائيل.

والواقع، أن التهديد الديمغرافي بات يشكل أحد أكبر المخاطر على منطقة الشام والعراق، وهو تهديد قد يغير وجه هذه المنطقة وإلى الأبد، وربما بعد سنوات، ليست كثيرة، نستطيع القول إن هذه المنطقة كانت تسكنها أكثرية عربية.

المصدر: عربي 21 الكاتب: غازي دحمان
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ