السوري ومنفاه القسري
السوري ومنفاه القسري
● مقالات رأي ٢ يوليو ٢٠١٧

السوري ومنفاه القسري

منذ بدايات القرن العشرين، اعتُبر النفي العقوبة الثانية بعد الإعدام، واعتبر أشد قسوة على الروح الإنسانية من عقوبة السجن مدى الحياة، ومن عقوبة السجن مع الأعمال الشاقة. إذ يعتبر علماء النفس وعلماء المجتمع أن اجتثاث الإنسان من بيئته ووضعه قسريا في بيئة جديدة بالكامل، قريبة عليه في تفاصيلها، المكان والمناخ والثقافة، عقوبة. والأهم هو اللغة، وطبيعة الحياة، ولعل هذا كله كان في وسع الذات البشرية أن تتحمله، لكن ما يجعل الذات البشرية تشعر بذلك الشعور القاسي القاتل من حالة عدم الأمان، ومن حالة السقوط في هوّة الغربة، والاغتراب، هو الوجود في مكان لا يعترف بك وبذاكرتك، هو هذا التحول من كائن له مقوماته الزمنية، من ماض وحاضر ومستقبل، إلى كائن وحيد بدون ماض، ولا حاضر، ولا أي احتمال لمستقبل، بل على العكس، هو انعدام لكل الأزمنة، وضياع حقيقي لمقومات الشخصية، ومقومات الهوية.

عرف التاريخ البشري حالات نفي كثيرة، بدأت مع بدايات الحضارات البشرية، إذ استخدمت إمبراطوريات في العصور القديمة، مثل ممالك آشور وبابل وروما، التهجير القسري الشامل لشعوب كاملة، وذلك عقوبةً لتمرّدها، وذلك من منطلق الاعتقاد بأن الشعب المهجّر من أرضه سيتفكّك ويزول. وبالفعل، لم تصمد غالبية الشعوب أمام التهجير، وقد استمرت آلية التهجير والنفي، وصولا إلى العصور الحديثة، وكان أشهرها حالات نفي رؤساء، أو ملوك، أو زعماء ثورات، أو زعماء سياسيين. فقد جرى تهجير نابليون إلى جزيرة ألبا، ومن ثم إلى سانت هيلينا. وتأسست أستراليا منذ البداية مستوطنة عقابية للإمبراطورية البريطانية تنفي إليها من يعارضها، أو من يتمرد عليها. ومعظم هؤلاء المنفيين قتلهم المنفى، بعد أن عمر في أرواحهم حالاتٍ من القهر والوجع لا تحتمل، معلقين على جدران المنافي، بلا لون، ولا انتماء، ولا انسجام، كأشجارٍ اقتُلعت من تربتها وغُرزت في أراضٍ أخرى، وكان لابد لها أن تذبل وتنكسر، وتصفرّ ثم تهوي.

وبعد ذلك، بدأت الحكومات الدكتاتورية في العالم اتباع الأسلوب نفسه، ولكن بطريقة أكثر قسوة ووحشية، لهشاشتها، ولرعبها الدائم من ثورات شعوبها عليها، فقد قام الدكتاتور جوزيف ستالين بتهجير شعوب بأكملها إلى سيبيريا، واستخدمت حكومة ألمانيا النازية مبدأ التهجير الشعبي القسري.

تمّت، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، المصادقة على ميثاق جنيف الرابع الذي يحظر طرد السكان المقيمين في أراض محتلة. واعترفت كل الدول به، ووقّعت عليه، وهذا ما أنتج هبوطا حادا في حالات التهجير إلى بلدانٍ أخرى. كما أقرّت منظمة العفو الدولية، تماشياً مع القانون الدولي، معارضتها كل حالات النفي القسري، وهو ما عرّفته بأنه عندما تُجبر حكومة ما أفراداً على مغادرة بلدهم، بسبب معتقداتهم السياسية أو الدينية أو غيرها من المعتقدات النابعة من ضمائرهم، أو بسبب أصلهم العرقي أو جنسهم أو لونهم أو لغتهم أو أصلهم القومي أو الاجتماعي، ثم تمنعهم من العودة. لذا اعترفت "العفو الدولية" بحق الذين يتم نفيهم قسراً بالعودة إلى ديارهم. اعتمادا على القانون الدولي، بصرف النظر عن الظروف التي تم فيها نفي الأشخاص. وكما أن من المبادئ المهمة لحقوق الإنسان، المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حق العودة، إذ تنص المادة 13 على أنه "يحق لكل فرد أن يغادر أية بلد، بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة إليها". وفي المادة 14 لا يجوز حرمان أي شخصٍ بصورة تعسفية من حق الدخول إلى بلاده."

اليوم، وبعد مرور كل تلك السنوات على إعلان حقوق الإنسان، وبعد محاولات البشرية في قطع أشواط طويلة لجعل الإنسان يعيش ضمن شروطٍ من الحياة الكريمة، يمارس النظام السوري آلية التفكير نفسها التي مارستها الدكتاتوريات، منذ أكثر من مائة عام، وبوحشيةٍ لم يعرف لها التاريخ الحديث مشابها. وأمام كل أنظار العالم الذي يتشدّق بتقدّمه التكنولوجي، وبتقدّم عالم الميديا والصورة والتواصل والسرعة، يهجّر النظام السوري ما يزيد عن نصف سكان أقدم وأعرق بلد في المنجز الحضاري البشري، وينفيهم نفيا قسريا، ويوزّعهم على كل خريطة العالم، ثم، بكل وقاحة، ينشر فيديو لزيارة سخيفة يقوم بها مع عائلته إلى بيت ريفي بسيط في ريف حماه، ويخلع حذاءه في تمثيلية فاشلة، ناسيا أنه داس بقدميه وبالحذاء المخابراتي العسكري القذر على كل ما صنعه العالم من قوانين وحقوق. وأنه في اللحظة التي دخل فيها هذا البيت، ترك مئات الآلاف من السوريين بيوتهم قسرا، ومضوا إلى منافيهم الباردة البعيدة، وهم يردّدون ما قاله محمود درويش:
قُلْ للغياب: نَقَصتني / وأنا حضرتُ.. لأُكملَكْ.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: ميسون شقير
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ