العراق الجديد: الرياض تبني ما قوضته طهران
العراق الجديد: الرياض تبني ما قوضته طهران
● مقالات رأي ٢٦ أكتوبر ٢٠١٧

العراق الجديد: الرياض تبني ما قوضته طهران

نقلة نوعية في العلاقات السعودية العراقية لا يمكن أن تخطئها العين، وكانت لكلمة خادم الحرمين الشريفين في توصيف العلاقات خارج إطار الدبلوماسية السياسية، بأنها علاقة جيرة وروابط إخوة، دلالة على أن المأمول يتجاوز مجرد رأب الصدع السياسي الذي شهدته العلاقات خلال السنوات الماضية، بعد الاستلاب الذي مارسته إيران لهويّة العراق العربية، وتقزيم بلد عريق بحجة الحرب ضد الإرهاب.

التدخل الإيراني في الشأن العراقي كان إيذاناً بتكريس المحاصصة السياسية الطائفية، والولاءات مع أيديولوجيا ولاية الفقيه التي تحاول إيران تدويلها، كبديل لتصدير الثورة المباشرة، في العراق ولبنان واليمن، وتحويل ساحات النفوذ إلى مصادر لإنتاج الفوضى السياسية، وتقويض استقرار الدول وخرق التوافقية بين المكونات السياسية المختلفة. وبالطبع عادة ما يجد هذا التدخل قبولاً عند الشخصيات الانتهازية، كما هو الحال في بعض التيارات السياسية في لبنان، ونظام المخلوع صالح في اليمن، وبعض التيارات السياسية من أنصار الإسلام السياسي الشيعي في الخليج؛ لكنه ولاء مشروط بالبحث عن دور وليس عن قناعة بجدوى السلوك الإيراني في المنطقة الذي هو سلوك تقويضي هدمي لا يمكن أن يساهم في بناء دولة قدر أنه قادر على مفاعيل التدمير للدول المضطربة.

العراق يتعافى من منطق الميليشيا بعد أن مضت سنوات طويلة والفوضى تلازمه كجزء من تبعات الانتقال إلى منطق الدولة الذي يتشكل الآن، وبحاجة إلى مساندة المجتمع الدولي ودول الجوار. وهنا يمكن أن نقرأ الاستباقية السعودية في العلاقات الخارجية، والمبادرة بمد يد التعاون والشراكة المبنية على الاحترام والمصالح المشتركة للعراق، وبسلوك ولغة ترفض الطائفية، وكان جزءاً من التأكيد على ذلك هو الدعمُ الكاملُ للحرب على تنظيم داعش ومباركة العراق بالتخلص من آفة الإرهاب، على الرغم من المخاوف والتحفظات المشروعة حول آليات ذلك، وتبعاته، والأخطاء التي قد تقع بسبب الانحراف عن سلوك الدولة والارتهان، ولو مؤقتاً، لسلوك الميليشيا.

يمكن القول إن جزءاً من الإرادة العراقية وُلد بعد محاصرة سلوك إيران في المنطقة، وأبرزها أصوات النقد العالية من قبل الإدارة الأميركية، التي من المفترض أن تعقبها مرحلة جديدة في ضبط هذا السلوك. الإدارة الأميركية الجديدة انتقدت هيمنة ملالي طهران، بل واعتبرت النظام الإيراني هو الراعي الرئيس للإرهاب في المنطقة في أهم ثلاثة ملفات؛ العراق وسوريا واليمن.

في الملف العراقي انتهت مرحلة المالكي الذي كان ممانعاً لأي أدوار غير إيرانية في النهوض بعراق عربي غير طائفي، وفي سوريا يبدو أن التخلص من «داعش» مرتبطٌ بشكل أساسي بخروج الميليشيات الشيعية المسلحة التي تبعثها إيران وحزب الله، الذراع الأكثر التصاقاً بها. وفي اليمن فإن النزاع بين أنصار الله والحوثي، وكل القوى السياسية في اليمن، هو مسألة وقت، حيث انتقل من حالة الانتهاك للشرعية في اليمن إلى احتلال شمال البلاد، واللعب في مقدراته وهويته على كل المستويات، وآخرها تجريف الهوية الثقافية عبر مناهج التعليم والمساجد وملاحقة الصحافيين، وحتى الشخصيات السياسية في حزب المؤتمر للمخلوع الذي بات ظلاً تابعاً لهيمنة الحوثيين، وهو ما يفسر أيضاً في خصوص الحالة اليمنية توجهاً أميركياً جديداً بالضغط على إيران ووكلائها بالخروج من ملف اليمن، والتعامل مع الحوثيين في إطار الحرب على الإرهاب، بدءاً بمنع وصول الإمدادات الإيرانية للأسلحة عبر القوارب البحرية والتهريب.

الرياض تمد يد البناء في العراق بعد أن أنهكته يد الهدم والهيمنة الإيرانية، وهذا ما يفسر تشكل قوى شيعية سياسية بتوجهات تصالحية مع عمقها التاريخي في منطقة الخليج، وعلى رأسه المملكة التي كان لها اليد الطولى في ترميم خرائب الربيع العربي، وانعكاساته على منطق الدولة في مصر وليبيا وتونس، مع الحفاظ على سيادة تلك الدول من أي مساس. وكانت للحرب على تنظيم داعش عبر التحالف الدولي بدعم الولايات المتحدة نتائج ملموسة على الأرض، وكانت زيارة مقتدى الصدر ثم العبادي والتصريحات القادمة من بغداد مؤشراً إيجابياً على مرحلة جديدة في المنطقة، هي مرحلة بناء وشراكات فاعلة، ومن هنا كانت المبادرة في الاتفاقات الاقتصادية وعودة آمنة للصادرات النفطية العراقية وازدهار الاقتصاد، وكل ما ينفع الناس على الأرض، بعيداً عن الشعارات والصخب الإيراني والميليشيات المنتجة للفوضى.

السعودية على المستوى السياسي يمكنها أن تلعب دوراً مهماً في طمأنة المكونات السنية في العراق، وإعادة إدماجها وتعافيها من الانحياز الطائفي الذي مارسته حكومة المالكي سابقاً، لا سيما في المدن ذات الأغلبية السنية في محافظة الأنبار والموصل ومحافظة صلاح الدين... هذا الدمج السياسي سيجد صداه بشكل سريع متى ما أثمر التعاون الاقتصادي عودة العراق كقوة اقتصادية في المنطقة، وقوة سياسية قادرة على التخلص من النفوذ الإيراني بولادة هويّة جديدة قائمة؛ عراق يسع الجميع على أساس المواطنة ونبذ الطائفية؛ هوية جامعة تعيد العراق إلى عمقه العربي، وهو الأمر الذي دعمته السعودية برفضها لأي تحيّزات طائفية ودعمها لحكومة العبادي وإصلاحاته السياسية في وقت يتنفس العراق هواءه الوطني بعيداً عن فزاعة «داعش» التي كانت تستغلها إيران، أو شبح التقسيم بعد أن وقفت الرياض مع العراق في المسألة الكردية، والمطالبة بوحدة العراق باعتبارها خطاً أحمر لا يمكن التنازل عنه.

والحال أن نقطة التحول الكبيرة التي مهدت لها يد الرياض التي صافحت بها الرغبة العراقية الجديدة في التحول، ستؤتي ثمارها قريباً مع موعد الاستحقاق السياسي المقبل عبر الانتخابات البرلمانية في أبريل (نيسان) عام 2018، ومن المرجح أن تبدأ مرحلة من التحالفات الانتخابية وتحول في خريطة التحالفات القديمة وحراك أكثر تنوعاً من قبل التيارات المدنية، يجب أن تعقبها نقلة نوعية أخرى على مستوى الإصلاح السياسي والاقتصادي.

صحيح جداً أن التخلص من إرث الطائفية الذي تم تأسيسه منذ سقوط نظام صدام حسين يحتاج إلى سنوات طويلة، لكن الخطوات الأولى في الاتجاه الصحيح قد بدأت بالفعل، وآن للعراق الجديد أن يتعافى من ارتباكه نحو عراق واحد عربي يمثله كله أبناؤه الذين دفعوا الكثير من الأثمان للتخلص من نظام البعث ومن الإرهاب، وآن الوقت لأن يضحوا بالطائفية والتغلغل الإيراني للاستقلال الحقيقي وسيادة منطق الدولة في أرض السواد والأمجاد.

المصدر: الشرق الأوسط الكاتب: يوسف الديني
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ