الفزاعة الإيرانية تضرب الجنوب السوري
الفزاعة الإيرانية تضرب الجنوب السوري
● مقالات رأي ٨ يونيو ٢٠١٨

الفزاعة الإيرانية تضرب الجنوب السوري

ثمة مبالغة فاضحة في التركيز على محورية الوجود العسكري الإيراني وملحقاته في الجنوب السوري في هذه اللحظة السياسية الحاسمة من عمر الانتفاضة السورية في وجه نظام الاستبداد، فما الذي يضير طهران في تخفيض حجم تواجدها العسكري والأمني هناك، أو التمويه عليه بأشكال وصياغات معروفة، إذا كانت تستحوذ على المفاصل الرئيسية في العاصمة دمشق وريفها، مثلما تستحوذ على صناعة قرارها السياسي، مستبيحة مرتكزات السيادة السورية طولا وعرضا، وتهندس الخطوط العريضة والرفيعة لخريطة سوريا الديموغرافية في أكثر المناطق كثافة بالسكان، بعد أن رسمت حدودها الجغرافية بقوة الحديد والنار.

الأمر الذي يشعل فتيل العديد من التساؤلات المحورية حول مدى كثافة التحشيد السياسي والإعلامي، وتسليط الأضواء على هذا الجانب «الثانوي» في الملف الداخلي السوري، وامتداداته الاقليمية والدولية، التي تشهد حالة غير مسبوقة من التكثيف المعلن لمشاريع عدوانية عابرة للحدود، جميعها يقصي مصلحة أبناء البلد ويدوس على معاناتهم.

مبالغة لا بد أن تذكّر بحمى صناعة الفزاعات في المنطقة والعالم، مثلما تستحضر سلسلة لا متناهية من الأهداف المحققة قولا وفعلا عن طريق استثمار الفزاعة الإيرانية تحديدا، بدءا من عبثية الحرب العراقية – الايرانية وما ألحقته من كوارث بالشعبين العراقي والإيراني وشعوب المنطقة عموما وقضاياها الحيوية، وليس انتهاء بسياسة الابتزاز التي تمارسها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لدول الخليج العربية من خلال التلويح بوهم التهديد الايراني، الذي بات بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، كلما اقتضت الحاجة إلى بناء ما يلزم من ذرائع زائفة الغرض منها تمرير أهداف غير زائفة، تتحول مع مرور الوقت إلى حقائق دامغة ليس في ملفات الشرق الأوسط الشائكة فحسب، وإنما في ملفات دولية أيضا، حيث لا يمكن المرور مرور الكرام على مظاهر بداية تشكل ذلك الصدع بين الموقف الأوروبي من جهة، والموقف الأمريكي من جهة أخرى، حيال الملف النووي الايراني، إثر إعلان ادارة ترامب انسحابها من الاتفاق النووي الايراني مؤخرا.

بعيدا عن الجدل الدائر حول صوابية الخطوة الأوروبية الرافضة لتقويض ذلك الاتفاق الدولي من عدمها، ربما تشكل هذه الخطوة سابقة غاية في الأهمية على مستوى لفظ هذا الطعم أو ذاك، عندما تخلو عملية ابتلاعه من فائدة أو جدوى، أو تنطوي على مخاطر وكوارث لا تحمد عقباها، مثلما تشكل نموذجا يحتذى، خاصة بالنسبة لتلك القوى والأنظمة والشعوب، التي طالتها مرارة طعمه غير مرة، ما يستدعي، بالضرورة، قراءة متأنية لأي حراك سياسي أو عسكري من منظور المصالح الوطنية الحقيقية، بعيدا عن الأوهام والتوهمات التي تزرع في الدروب لغايات غير مرئية، كما هو الحال مع ضرب اسفين الفزاعة الإيرانية في طريق تسوية مسألة سياسية معقدة، مثل مسألة الجنوب السوري، التي تتخطى بحكم الأمر الواقع والمعطيات الجيوسياسية والتاريخية، مسألة تحديد خطوط العرض والطول لوجود القوات الإيرانية فيها، كما تعيد كشف ملمح جوهري من ملامح تشكيل خرائط دول المنطقة وبناء أنظمتها السياسية انسجاما مع غايات صانعي تلك الخرائط والأنظمة السياسية فيها على حد سواء. مساران شهدا تلازما لا انفكاك في عراه منذ بداية تشكل الدولة القطرية في الشرق الأوسط.

إذن، في حال ابتعدت الخطى عن مطب الوقوع في ظلال الفزاعة الإيرانية، أو غيرها في حالة الملف السوري عموما، وفي ملف الجنوب السوري تحديدا، تعود ركائز تشكيل النظام السياسي العربي بالتزامن والتساوق مع تجسيد مشروع الحركة الصهيونية العالمية على أرض فلسطين، وتتجلى بحلة جديدة متجددة، قوامها ركيزتان لا تتبدلان، تولدتا من رحم المشروع العدواني عينه، وباتتا محور سائر التطورات السياسية والعسكرية اللاحقة، في سائر ملفات المنطقة، حيث أصبح من الممكن اعتبار قرار دولة الاحتلال، ضم مرتفعات الجولان المحتلة وابتلاعها، إحدى مسلمات الماضي، مع تمدد إضافي آخر في عمق الأراضي السورية، حتى لو لم يأخذ ذلك التمدد شكل الاحتلال التقليدي المباشر، بينما يعيد النظام السوري تقديم أوراق اعتماده للدوائر الصهيونية والاحتكارية الدولية، المتكفلة بإعادة تأهيله ضمن منظومة العلاقات الدولية العرجاء، في ضربة مزدوجة تقضي على الأخضر واليابس، في ما تبقى من حطام أحلام الشعوب العربية في الحرية والكرامة والتحرير.

لم تتكشف بعد حقيقة ابتلاع الفزاعة الايرانية في سائر تجلياتها وهي كثيرة ومتنوعة بطبيعة الحال، لكن أخطر ما فيها يتمثل في مطب آخر لا يقل فتكا عن الأول، متجسدا هذه المرة في الوقوع في مطب المفاضلة بين ثنائيات قاتلة لقضايا حيوية، مثل القضية الفلسطينية، وقضية احتلال أراض عربية من قبل دولة الاحتلال وقضية التطبيع معها وإعطائها حق العضوية في نادي دول المنطقة، كعضو طبيعي، لم يحتل أرضا، ولم يقتل شعبا، ولم ينتهك حرمات، ولم يستول على حقوق الغير، وذلك بعد أن تمكنت مع مريديها في المنطقة والعالم من استخدام لعبة الفزاعات على خير وجه، عن طريق إقناع لفيف من القوى والأنظمة والشخصيات العربية، بما فيها شخصيات معارضة لأنظمة الاستبداد في بلدانها، بأن مستقبل المنطقة تحدده المفاضلة بين مشروعين لا ثالث لهما، المشروع الاحتلالي الاستطياني التوسعي الصهيوني من جهة، والمشروع الإيراني الاحتلالي الاستيطاني التوسعي من الجهة الأخرى، فوقع الاختيار على الأول وأصبح العالم العربي يتلظى على صفيح احتلالين وأكثر، في ظل غياب مشروع عربي مشترك، سواء على المستوى الجمعي أو على المستوى القطري.

تلك المفاضلة لم تفتك بالعقل السياسي العربي على مستوى أنظمته السياسية فقط، بل طالت شخصيات وأحزاب لطالما أعربت عن غيرتها على مصالح الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعبين الفلسطيني والسوري، ما أفضى، على سبيل المثال، إلى دعوة إحداها لقوى المعارضة المسلحة في الجنوب السوري، إلى منازعة النظام السوري على كسب ود الدولة العبرية، من خلال توحيد توجهاتها وفصائلها بطريقة تقنع القيادة الاسرائيلية بأن تلك القوى أقدر من النظام على ضمان استقرار الشريط الحدودي الفاصل بين الأراضي السورية وأراضي هضبة الجولان المحتلة، وربما الحدود السورية – الأردنية أيضا، في مشهد تنافسي يتكرر بشكل رتيب منذ أن بدأت تتعاقب اتفاقيات السلام والهدن والتسويات بين الدولة العبرية وعدد من الدول والحركات والأحزاب العربية، التي تتشدق بشعارات مقاومة وممانعة لمشاريعها تماما مثلما يفعل النظام السوري وحليفه الايراني وملحقاتهما في شرق أوسط باتت أنظمته السياسية تستطيب مذاق مرارة الطعوم السامة، وتبتلعها من دون عناء.

المصدر: القدس العربي الكاتب: باسل أبو حمدة
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ