القبعات البيضاء في حلب
القبعات البيضاء في حلب
● مقالات رأي ١٥ أكتوبر ٢٠١٦

القبعات البيضاء في حلب

عندما سئل بشار الأسد عن ذوي القبعات البيضاء في حلب كان جوابه أنه لم يسمع بهم، والواقع أن العالم جميعاً سمع بهم إلا هو. في القرآن الكريم تعبير مدهش عن أمثاله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْين لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا).

صهري في كندا قال يجب أن تراهم فقد صدر عنهم فيلم يروي بطولتهم في حلب، وهي تحت القصف في قناة «النت فليكس»، وهي قناة رائجة جداً في مونتريال يتلقفها الناس باشتراك شهري بعشرة دولارات. لقد رشحوهم لنيل جائزة نوبل للسلام. وجلست أنا لمدة ساعة خلف التلفزيون أتعرف عليهم في فيلم صدر حالياً، يمكن لأي مشاهد في العالم أن يراه. وأهم ما في هذه المجموعة في حلب أنها تنقذ حياة الناس من ويلات القصف، بعد أن ترمي عليهم الطائرات القاصفة القنابل الحارقة والبراميل المتفجرة.

في الفيلم رأيناهم وخوذهم البيضاء جاهزة مع أدوات إسعافهم البسيطة، فإذا حلقت الطائرات بصوتها المخيف فوق منطقة «الهولك» في حلب مثلًا تركت المجموعة الطعام والشراب وهرعت إلى مكان الهدف للإنقاذ. لقد أنقذوا الطفل محمود وسموه طفل المعجزة لأنه كان طفلًا رضيعاً لم يبلغ الشهر بعدما رسا تحت الأنقاض وهم يقرعون الجدران ويصغون لكل همسة عسى أن ينقذوا روحاً جديدة! وأخيراً وصل إلى سمعهم بكاء طفل رضيع من بعيد! وهكذا تابعوا الحفر، حيث الأنين الخافت لينقذوا الرضيع محمود بعد أن بقي تحت الركام 16 ساعة! لقد رأيناهم وهم يقبلونه بعد أن أصبح عمره سنة ونصف السنة، أما مقدار الناس الذين رأوهم مقطعي الأوصال، أو في حشرجة الموت، أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة تحت أثقال الحجارة وأعمدة الإسمنت؛ فعن عددهم حدّث ولا حرج.

وأجمل ما في هذه المجموعة الحلبية المتضافرة أنها تعتمد الآية القرآنية الكريمة (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). أحدهم يودع ابنته كل صباح ويقول لزوجته ربما لن تريني مجدداً، فهم يهرعون إلى بؤرة الحدث حيث القصف، وحين يرون الطائرات النفاثة المغيرة من بعيد وهي تزمجر يتوقعون أن يكون القصف في المكان الفلاني، فيهرعون بسيارتهم إلى مكان الحدث وبأيديهم ما اعتادوا حمله من أدوات إطفاء النيران ومعاول الحفر وجرافات التنقيب.

إنهم أبناء حلب المثاليون. يقول رئيس المجموعة «أبو عمر» لا يهمني من يقاتل ومن يقتل، فقط يهمني أن أنقذ من تحت الأنقاض من يقترب منه الموت ويلامسه.

وحول عقيدته في الموت والحياة يرى أن الأجل ليس بيد أحد بل هو ملك الرحمن الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة وهو الذي يحيي ويميت.

هؤلاء المنقذون مهنتهم إنسانية وهم معرضون للموت مع كل قصف وتفجير، فالقنابل العنقودية تقصف الأرواح وتخطف النفوس، في دفعات من صناعة إبليسية. لقد مات منهم في عمليات الإنقاذ حتى صدور الفيلم الذي أبرز تضحياتهم الإنسانية 132 شخصاً، ولكنهم أنقذوا 58000 إنسان.

معركة حلب مع كتابة هذه الأسطر تذكرني بأمرين بالمثل الشعبي الذي يقول بعد خراب بصرة! كما يذكرني باجتياحها من قبل تيمورلنك قبل أن يدمر العثمانيين في معركة سهل أنقرة في عام 1402م، وفي هذه الفترة المضطربة كان ابن خلدون يجتمع بالطاغية، ويحاول ألا تستباح دمشق كما استبيحت حلب. مع كل هذه الحلكة، فإن أصحاب الخوذات البيض يبعثون بالأمل في ظلمات الاضطراب السياسي الذي تعيشه المنطقة.

في عهد الخليفة المعتمد، انفجرت الأوضاع في ثورة شعبية هي ثورة الزنج ما يشبه «المجالدون» في روما وسبارتاكوس، حتى انطفأت في عام 270 هجرية، بعد أن قتلوا معظم أهل البصرة في رقم يقترب من 300 ألف ضحية، وفي عهد ابنه المعتضد انفجرت الأوضاع من جديد في ثورة القرامطة الذين وصلت أيديهم إلى حجر الكعبة. دروس التاريخ مفيدة، أليس كذلك؟

المصدر: الاتحاد الكاتب: خالص جلبي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ