برد "المستقرضات" والشعب السوري في العراء
برد "المستقرضات" والشعب السوري في العراء
● مقالات رأي ١١ ديسمبر ٢٠١٤

برد "المستقرضات" والشعب السوري في العراء

بحسب حكايات جدتي، نقلاً عن جدتها، وتلك عن جدتها الأخرى، وصولاً إلى جدة ضاعت في أزمنة الحكايات، فإن المستقرضات هي الأيام السبعة المتعلقة بذيل آخر السعود: سعد الخبايا. لكن هذه المستقرضات استمرأت أجساد السوريين، وأرواحهم، منذ أربع سنوات، وأخذت تقرض بهم مع أول سعد من السعود، وهم في مخيمات اللجوء، أو في العراء تحت رحمة جبابرة الكون، من أرض وسماء، بينما العالم غارق في نعيم دفئه، وشعبي السوري يكويه الصقيع والنار.

ولمن لا يعرف السعود، التي هي جمع سعد، وأظن أن شعبنا كله لا يعرف السعد، منذ سنوات عجاف حلّت في أوطاننا، فسوف أذكّر بها، بما أنها تسبق الربيع، بعد أن تأخر ربيعنا، وربما تاهت به الدروب. هذه السعود على ذمة ساكني الديار منذ القديم، خلاصة خبرتهم التجريبية التي استقطروها من روح الطبيعة، الملتصقين بها، مثلما لو كانوا جزءاً منها يربطهم بها حبل سري، فيدور نسغها في شرايينهم، ويرجع إلى قلبها، تأتي بعد "المربعينية"، وهي أيام البرد الممتدة من 21 ديسمبر/كانون أول حتي 30 يناير/كانون ثاني، وهي رحيمة قياساً بالخمسينية، جامعة السعود كلها، إذ تمنن: "إذا ماعجبكم حالي ببعتلكم خوالي" أي "السعود" الأربعة متساوية الأعمار، لكل منها اثنا عشرة يوماً ونصف، يبدأ أولها بأواخر المربعينية، أي 31 كانون الثاني، ويسمى: "سعد الذابح"، حيث تموت الماشية من شدة البرد فيه: "سعد الدابح ما بخلّي كلب نابح". يلحق به سعد بلع حيث تفيض الأنهار وتزداد الآبار امتلاء وكأن الأرض ابتلعت ماء الأمطار: "بسعد بلع بتنزل النقطة وبتنبلع". ثم يأتي سعد السعود الذي قيل فيه: "سعد السعود سلاخ الجلود"، كما قيل: "في سعد السعود بتدور الميّة بالعود"، أي يسري النسغ في الأشجار وغ
صونها. وأخيراً، يطل سعد الخبايا برأسه، واعداً بنبش الحشرات والزواحف من أوكارها، بعد أن احتمت بسبات طويل من شر البرد المستطير: "في سعد الخبايا يطلعن الحيايا".

لكن، لا تنسل هذه السعود الأربعة المتغطرسة، فجأة، مثلما كان قدومها ممهداً له بالمربعينية، فهي تطلب أسبوعاً آخر من شباط الذي يستنجد بابن عمه آذار:" آذار يا ابن عمي، أربعة منك، وثلاثة مني، منخلّي دولاب العجوز يغني". وقد يكون عادلاً إذا كانت السنة كبيسة، فيعرض عليه: ثلاثة منك وأربعة مني. هذه الأيام السبعة تسمى "قرون العجائز: أو "المستقرضات" وفيها برد قارس، وريح قوية وأمطار وفيضانات، وتقعد العجائز قرب المدافئ: "بالمستقرضات، عند جارك لا تبات"، ويموت فيها ماشية كثيرة: "غنمنا ما بتدوم حتى تروح عجايز الروم".

هذا هو شعب هذه الأرض، عاش في رحم الطبيعة، عرف نبضها وخبر أطوارها، فشخصنها ونسج حكاياته عنها، وتوارثت هذه الخبرة الأجيال. أحب الحياة، وظل ملتصقاً بأرضه، بزيتونه وليمونه، يقلّم أشجاره، ويبذر الأرض لتمنحه السنابل فيعجن خبزه كفاف يومه.

" ما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم "

كان همّهم، فيما مضى، ينحصر في زرعهم وماشيتهم، أما اليوم، وبعد سنوات من تغوّل شياطين الأرض فوق أرضهم ودفع مصائرهم باتجاه المجهول، فصار لسعود الطبيعة حكاية أخرى، وصار للسوريين هموم أخرى أيضاً. صارت المستقرضات تلاحق السوريين، حتى لو لم يكونوا عجائز، فتحصد الأطفال والأمهات، تتحالف مع الموت على السوريين، مع الجوع، مع داعش، مع البراميل المنهمرة من السماء، ولم ينفع هذا الشعب المغدور كل التحالفات التي تعقد على اسمه وباسمه. هاهم في المخيمات يحصدهم البرد والجوع، وتعلن منظمة الغذاء العالمي وقف مساعدات بالمبلغ المرقوم عن مليون وسبعمائة ألف من اللاجئين السوريين، وعازمة، في الوقت نفسه، على إيقافها عن النازحين في داخل الأراضي السورية، بينما كلفة الحرب الدونكيشوتية على طواحين الهواء الداعشية تتعدى ما يحتاجه هؤلاء المشردون المهجرون عن ديارهم وأراضيهم بعشرات المرات، ولو استشهدنا بالأرقام، طالما تحوّلت نكبات الشعب السوري، كما تحوّل هو إلى جداول إحصائية وأرقام، فقد بلغت قيمة المساعدات في العام 800 مليون دولار، بينما تقدر تكاليف الحرب المفتوحة الأمد على داعش بأضيق نطاق، وقبل أن تتوسع أكثر، إلى ما يقترب من أربعة مليار دولار في العام، هذا إذا لم نحسب تكاليف الحرب السورية الأخرى، وما يُدفع لأجل تسليح كل الأطراف المشاركة فيها، فأين الضمير العالمي وأين الحياء الإنساني؟ أموال بأرقام فلكية تُدفع على التسليح والحروب، بينما شعب ينام معظمه في العراء، ويموت من البرد والجوع والفاقة والمرض؟ الشعب السوري واقع بين حدّ السيف ومسقط البراميل، يناور الموت، ومن ينجُ من هذا الموت ليس نصيبه في الحياة أوفر، حتى الباقون في المناطق الأقل توتراً مهددون بالبرد والجوع وتردي الحياة إلى دركها الأسفل، تحت رحمة انقطاع المواد الأساسية للعيش، لا محروقات، لا مياه، لا كهرباء، لا مواد تموينية، لا دواء، وما أكثر اللاءات التي ضيقت خناقها على رقبة الشعب، منذ أن صرخ بـ (الّلا) الأولى في وجه الظلم والجور والاستبداد، إلى اليوم.

جاءت وراحت السعود الأربعة في السنوات الأربع التي خلت، وأخذت معها الكثير الكثير من شعبنا، ولم تعد جدتي على قيد الحياة، لأسألها أن تتوسط لنا عند سعود "الأربعة"، علّهم يرأفون بحالنا، بعدما لم يكترث جبابرة العالم بحالنا، ولا بأطفالنا، وهم يتضورون جوعاً ويتجمدون برداً، ولا بأمهات جف حليب أثدائهن، ولا بفتيات يُسَمن في بازارات الفحولة كل صنوف الذل والمهانة، وعلّهم يمنعون الموت وزبانيته عنا.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: سوسن جميل حسن
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ