بوتين ومعادلة فيينا
بوتين ومعادلة فيينا
● مقالات رأي ٢٩ نوفمبر ٢٠١٥

بوتين ومعادلة فيينا

ثمّة معادلة دولية، تمت بلورتها خلال لقائي فيينا بشأن سورية، تقوم على منح الحل السياسي الأولوية في سياسات الدول التي شاركت فيه، بالحفاظ على التوازن بين طرفيه: النظام وجيشه من جهة، والمعارضة والجيش الحر من جهة أخرى، وتركيز الجهود الحربية على "داعش" وجبهة النصرة وتنظيمات الإرهاب الأخرى.
هذه المعادلة كان يجب أن تلزم روسيا بحل سياسي، طرفه الآخر المعارضة وجيشها الحر الذي لا يجوز أن يتعرّض لجهود عسكرية روسية، تخل نتائجها بالتوازن الضروري للحل. المشكلة أن موسكو أرسلت جيشها إلى سورية، لتغيير معادلات القوة بين طرفي الحل، وأن عملياتها تقوّض فرص السلام، وتعزّز مواقع الإرهاب الذي قرّر العالم محاربته، لكن روسيا خالفت معادلة فيينا في جانبيها، واختارت القضاء على الجيش الحر، وتطبيق حلٍّ مغاير لما وافقت عليه، يشطب الحر من معادلات الحل، ويجبر العالم على القبول بالنظام، لأن بديله الإرهاب وتنظيماته.
بحربه ضد الجيش الحر، يرفع الكرملين غطاء فيينا الدولي عن سياساته تجاه الحل السياسي السوري، ويفرض شكل هذا الحل ونتائجه، قبل وربما من دون أي تفاوض، بجعله عسكري المدخل والطابع، أسدي النتيجة. مثلما يرفع "شرعية فيينا" عن غزو الجيش الموسكوفي سورية الذي افترض أنه لن يخل بشرط الحل الرئيس: توازن القوى بين طرفيه الداخليين المتصارعين، الذي يضمنه الروس عبر جيشهم المرابط فيها والذي دخلها بعد أن أوشك النظام على الانهيار، فأنقذه.
يقوم الروس بكل ما من شأنه إفشال الحل السياسي، وها هم يصعّدون سوريّاً وإقليمياً، وينسفون معادلة فيينا وما أنتجته من تفاهمات وأسس للحل، ويضعون العالم أمام ابتزاز خطير أساسه عسكرة علاقات القوى الدولية بالصراع السوري، وشحنه بمخاطر انفجار إقليمي/ ودولي واسع، تدفع إليه سياسات حافة الهاوية التي ينتهجونها بتصعيدٍ مفعمٍ بتحدّي الآخرين.
باختلال موازين القوى لصالح النظام، المتمسك بحلٍّ عسكري يقضي على الثورة، يدخل الوضع السوري إلى حقبة جديدة من صراع متفجر، يحمل مخاطر تدويل متفاقم، وقتل مزيد من السوريين، وتدمير ما بقي من وطنهم، يتباعد بسببها الحل، وتتلاشى فرصه بتقدم منطق قوة ابتزازي يشحن البيئة الدولية بجميع عناصر التوتر والانفجار.
هذا التناقض الصارخ بين تعهدات روسيا السلمية في فيينا وسلوكها الحربي الذي يقوّض أي أمل في السلام، لا يبقى أمام الكرملين من خيار غير ضروب من التصعيد، تدفع بمزيد من قواته إلى سورية التي تتحوّل إلى ساحة استعراض دولي يومي لأحدث الأسلحة والذخائر، وميدان لتصفية حسابات مرتفعة الكلفة من الدم السوري ودماء شعوب الشرق الأوسط، وإنْ لم تقرر واشنطن الرد على تحدٍّ تملي آلياته الذاتية الرغبة في استخدام مزيد من القوة العسكرية، للحصول على مكاسب استراتيجية، تمس بمصالح قوى دولية وإقليمية لن تستسلم لهم، بما يضمره ذلك من احتمالات شديدة الخطورة ستشهدها العلاقات الدولية في فترة مقبلة، سيزيح التوتر والتسعير فيها فرص الحل السياسي والسلام.
بردّه على إسقاط تركيا طائرته الحربية، يجد فلاديمير بوتين نفسه أسير حساباتٍ توهمه أن أميركا ضعيفة، والدول الإقليمية عاجزة عن مواجهة القوة، وأن السوريين سينصاعون لحل تمليه قنابله وصواريخه. وبدل أن يلزمه إسقاط الطائرة بمعادلة فيينا، طفق يقوم بخطوات تصعيدية، متهوّرة وغير مسبوقة، تضعه خارج ما تفاهم عليه بالأمس القريب في فيينا، وتقوّض فرص البديل الذي وافق عليه في لقائها الثاني، وترفض حق الشعب السوري في الحرية، ومطالبته برحيل الأسد وسقوط نظامه، والعيش بسلام في بلاد تخلو من القتل والدمار.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: ميشيل كيلو
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ