بين صورتين وعنفين ومعسكرين
بين صورتين وعنفين ومعسكرين
● مقالات رأي ١٨ فبراير ٢٠١٥

بين صورتين وعنفين ومعسكرين

أثبت إرهابيو داعش تفوقاً في عرض القوة السادية على أنظمة القمع العربية التي، على عكس داعش، تعمل على طمس جرائمها، أو توليفها بما يبرر ارتكابها تحت عنوان حماية الأمن القومي أو مكافحة الإرهاب أو... بين إرهابين وساديّتين. بات المشهد متبايناً بين صنفين من الضحايا: ضحايا الشكل الأول من القتل الإرهابي، وهم أكثر "شهرة"، يفرد لهم الإعلام المحلي والدولي إطارا رومانسياً لتكريم معاناتهم، وضحايا الإرهاب الثاني المغيّبون في تعتيم الأنظمة وأبواقها الإعلامية التي تتغنى بالقتل، وتروّجه على أن ضحاياه هم أنفسهم المبرر لقتلهم. ولكلا المعسكرين مؤيدوه، علناً أو ضمناً، جزئياً أو كلياً.

لم يبتدع إرهابيو داعش جديداً في وسائل العنف التي اختبرتها قبلهم أنظمة عربية، ولا تزال، في تعاطيها مع المعارضين الموصوفين بـ "الإرهابيين" أو "الخونة". أقلها الاعتقال الاعتباطي والتوقيف مدداً طويلة، إلى ما هنالك من أشكال التعذيب في السجون، إلى قتل المتظاهرين، واستخدام القضاء لتوقيع عقوبات غير قانونية، أو متكافئة، إلى اغتيال المعارضين في أشكال مبتكرة من العنف، وإفناء مجموعات بكاملها، باستخدام الغاز الكيماوي أو القصف ببراميل البارود... لا يحظى ضحايا الإرهاب الثاني بفرصة مشهدية قتل ضحايا الإرهاب الأول، حيث تبدع داعش في "إبهار" مترقبي جرائمها، وتأسر شاشات وسائل الإعلام الدولية، في حين تبقى التغطية الإعلامية لضحايا الإرهاب الثاني خجولةً، لغياب التوافق على أهميتها، أو غائبة تماماً بفعل اعتبار الضحايا "خونة"، يستأهلون العقاب.

في محاولة مزاح سمجة، شبّه بشار الأسد براميل البارود التي تلقيها قواته على رؤوس المواطنين بـ "أواني الطهي"، وفي عرف نظام الأسد الاستبدادي، أن ضحايا براميل البارود غير موجودين أصلاً، وأن وقع هذه البراميل لا يعدو كونه أكثر إيلاماً من أواني الطهي. في حين تواصل قوات النظام إلقاء "أواني الطهي" على رؤوس المواطنين، لا يجد الضحايا منفذاً إلى وسائل الإعلام المشغولة بمتابعة آخر ابتكارات داعش في القتل المشهدي المروع.

في مشهد آخر، غير بعيد، قضى أكثر من ألف مواطن مصري في عملية القمع الدموية للمتظاهرين المؤيدين لجامعة الإخوان المسلمين في اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس/آب 2013 على يد قوات الأمن. لم نعرف الكثير عن هؤلاء سوى توصيف الإعلام المصري لهم بـ "الإرهابيين"، وتصوير قتلهم على أنه إنقاذ للدولة من الخوارج عليها. لم تصبح كلمة "مذبحة" متداولة في أوساط معارضي النظام العسكري، إلا بعد أن أصدرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" تقريرها الذي أكد عمليات القتل الواسعة، والمعدة مسبقاً، لمتظاهرين، غالبيتهم العظمى مسالمون. بقيت وجوه الضحايا في العتمة، كما هي حال المعتقلين الإسلاميين، اليوم، في السجون المصرية، إذ لا نعرف شيئاً عن هؤلاء سوى أنهم من "الإخوان"، بحسب تصنيف الإعلام المصري، ما يعني أنهم لا يستأهلون الأضواء الإعلامية، ولا منصب "الضحية" الرومانسي والعاطفي.

وكان مقتل الناشطة شيماء الصباغ في تظاهرة سلمية، في الذكرى الرابعة للثورة المصرية، قد أثار اهتماماً محلياً وعالمياً، عكس التباين في صورة ضحايا القمع بين الاهتمام بأحكام السجن القاسية بحق نشطاء الثورة ومقتل بعضهم برصاص الأمن في تظاهرات سلمية، وبين التجاهل العام لمصائر مجموعات كبيرة أخرى، تخضع للمعاملة نفسها، من قتل برصاص الأمن واعتقالات اعتباطية، وأحكام اعتباطية بالسجن مدداً طويلة، وحتى بالإعدام... في عرف الرأي العام، لا تستوي المجموعتان في حقوق المواطنة، وفي حقوق الإنسان، ما يبرر الصمت على الانتهاكات بحق المجموعة الثانية التي تصنف في خانة "غير المرغوب بها"، ما يعني أن التنكيل بها لا يستأهل أكثر من السكوت، إن لم يكن التأييد.

بين وحشية إرهاب داعش ووحشية إرهاب الأنظمة، ينقسم "مشاهدو" العرض بين فريقين: الأول تستفره صور الإرهاب الداعشي، ويرى في ذلك مبرراً للمزيد من القمع، على أيدي أنظمةٍ، تدعي محاربة الإرهاب، والثاني يخفف من وطأة العنف المروع على أيدي داعش، عبر التذكير المتواصل بضحايا الأنظمة وغيرهم، ممن لا يحظون بالرواج الإعلامي لضحايا داعش. وفي الفهم الضمني للفريقين، فإن القتل أو القمع أمر ممكن تبريره.
"لعل وحشية داعش أثارت في ما أثارت استنكاراً لفرط التركيز على جرائم المجموعة المتطرفة"

إذن، لا يستوي ضحايا الوحشية، لا في عرف مرتكبيها، ولا في عرف الإعلام ناقل الصورة، ولا في عرف متلقي هذه الصورة. ولعل وحشية داعش أثارت في ما أثارت استنكاراً لفرط التركيز على جرائم المجموعة المتطرفة، في حين تحصد جرائم أخرى أعداداً أكبر من الضحايا، وبسادية لا تقل قسوةً، أبرزها جرائم النظام السوري بحق مواطنيه. وكأن المجموعة الإرهابية "خلدت" ضحاياها، عبر مشهديتها الوحشية، في حين لم ينل الضحايا الآخرون حظوة الرثاء الإعلامي والشعبي لهم.

ولعل الذكرى الرابعة للثورات العربية التي انتهت غالبيتها العظمى إلى عنف فوضوي، لا سابق له، مناسبة لإعادة الاعتبار الإنساني لمن سقطوا ويسقطون سهواً خارج أضواء الإعلام التي بالكاد تأتي على ذكرهم، إن لم تذكرهم بالشتائم والشيطنة والتحريض على المزيد من سفك دمائهم.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: فاطمة العيساوي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ