"تخلص".. عندما تتحرّر سورية من الاستبداد
"تخلص".. عندما تتحرّر سورية من الاستبداد
● مقالات رأي ١٦ يونيو ٢٠١٨

"تخلص".. عندما تتحرّر سورية من الاستبداد

عرْضُ ساحة الأمويين في دمشق والمباني المحيطة بها، ونافورة الماء فيها، والحافلات تملأها، والمذيعة العفيَة بصحتها، المزيَنة بثيابها الأنيقة، وضيفها الفيلسوف على شاشة تلفزيون نظام الأسد، ذلك كله وغيره، لا يلغي الساحات والمباني المدمًرة في معظم سورية، ولا شتم الأمويين أو اللطم الإيراني في مسجدهم، ولا انقطاع الماء في سورية وغرق السوريين هرباً في المياه الدولية، ولا حافلات "داعش" التي كانت تحميها مليشيات قاسم سليماني وحسن نصر الله في أثناء عبورها سورية من غربها إلى شرقها، ولا صورة المذيع المليشياوي الذي يبشَر مناطق الحصار والتجويع بالباصات الخضر، ولا صحة المعتقلين الذين تحولوا إلى ركام من العظام في معتقلات الأسد، ولا ما تبقى من ثياب رثة عند الأسر السورية المعوزة المغصوصة، ولا فلسفة الضيف تمتُ إلى أي سرديةٍ سوريةٍ لها علاقة بواقع الحال السوري البائس.

بعد بضعة أسابيع على انتفاضة أهل سورية على الاستبداد، أشاع نظام الأسد مفردة "خلصت". مرَ عام بعد عام على ثورة السوريين، وبقيت المنظومة الاستبدادية منفصمةً عن الواقع، متجاهلة، في خطابها وسياساتها، ما يحصل في سورية. والآن، تعود الأسطوانة المزيّفة ذاتها، ولكن على نطاق أوسع. تتصوّر أنها أوصلت السوريين إلى درجةٍ من اليأس والإحباط، لكي يسلموا بما تسميه "الأمر الواقع"، وما يسميها أبواقها "الواقعية السياسية". إنها ترى الأمور جغرافيا، لا نفساً وروحاً وإرادةً وموقفاً وقراراً بالخلاص مما كان قائماً. خرجت ثلاثة أرباع سورية من ربقة الاستبداد في وقت من الأوقات. كان الفاعل بالنسبة لمنظومة الاستبداد الإرهاب والمؤامرة الكونية، ولم تعترف يوماً بأنها روح شعب سورية، ونفسه وإرادته، وموقفه الرافض لاستبدادها والخلاص منه. استدعت له إيران، وبعدها روسيا لـ "تحرّر" أرض سورية من أهلها. استلزم "التحرير" حصاراً لم تقم به النازية، ودماراً لا يشبه إلا ما حدث في غروزني.

شرّد فِعْلُ منظومة الاستبداد نصف سكان سورية داخلاً وخارجا، هدّم نصفها، أفقر معظمها، خرّب النسيج الاجتماعي، حوّل الدولة إلى وقيع تتقاذف سيادته، وتستبيحها أكثر من عشر قوى. ولا يتوقف قادة منظومة الاستبداد عن التشدّق بالسيادة المتهتكة. قالها الإيرانيون والروس إنه لولاهم لسقطت تلك المنظومة. ذلك لا يهمهم؛ وتابِعوهم يشترون سرديتهم بكل وضاعة، وينعتون الروس والإيرانيين بالأصدقاء والحلفاء الذين يحاربون معهم الإرهاب.

عادةً، يختلف اللصوص؛ وها هم "الأصدقاء والحلفاء" يختلفون. منظومة الاستبداد بين المطرقة والسندان؛ إذا بقوا، لا سيادة ولا قيمة لهم، وإن خرجوا، السقوط المحتّم مصيرهم. إن خرج أحدهم، وإيران المرشح الأوفر حظاَ، زاد استعباد الروس لهم، وانفضحت كذبة السيادة أبدياً، والسقوط الحتمي هو المصير. هذا في السندان، أما في المطرقة، فأميركا تضع يدها على سورية المفيدة فعلياً، وتركيا على حدود الشمال؛ وحدود الجنوب والشرق لا تنفع معها بروباغندا التحشيد أو الاستسلام عن طريق "المصالحات".

تستمر مكابرة منظومة الاستبداد؛ فبعد التعنت وعرقلة أي فرصةٍ لحل سياسي، وبعد اضطرار روسيا لنوعٍ من الحصاد السياسي بعد ثلاثة أشهر من التدخل (تحولت إلى ثلاث سنوات)، وبعد تحايل روسيا على القرارات الدولية، وسعيها إلى تفصيل حل بمقاسها ومقاس المنظومة، تراها أخيرا مأزومةً على حل عبر تكوين لجنة دستورية تجاوبت معها منظومة الأسد مرغمة بعد سحبها القبول من فم الأسد أمام كاميرا بوتين في سوتشي... بعد كل ذلك الانسحاق، تشيع منظومة الاستبداد مفردة "خلصت" للمرة المئة.

لا أيتها المنظومة؛ ما خلصت؛ وكي تخلص لا بد من رسم دستور جديد، ينهي تحكم فردٍ بالبلاد والعباد، يخلق البيئة الطبيعية المحايدة المناسبة، ليختار شعب سورية مَن يريد أن يتعاقد معه لحمل مسؤولية الحكم الخالي من الاستبداد والظلم والإجرام.

منظر الشاشة الباهر، وخطاب المحبَطين والمحبِطين واليائسين والميأسين، وهراء إعادة الإعمار عن طريق دول السلاح والفقر، والقانون رقم عشرة، والمجتمع المتجانس، و"أنصاف الرجال"، والخطف، وأخذ الرهائن والأتاوات ممن تبقى من "جيش حماة الديار"، وتحكّم الشرطة العسكرية الروسية بمليشيات "الدفاع الوطني" وحلها، واستدعاء رئيس المنظومة إلى سوتشي، وهذر وليد المعلم، والشبيحة الذين تسللوا إلى أوروبا، وإسرائيل التي تريد أن تثبِت ضمها الجولان واستهدافها عصابات إيران في سورية، ومضافة امتحانات الثانوية، وحال "داعش" المتلاشي وجبهة النصرة المكشوف؛.... لا يشي ذلك كله بأنها خلصت. تخلص فقط عندما تخلصون؛ وستخلصون. ملفات الإجرام تنتظركم في لاهاي. صور التعذيب حتى الموت التي نقلها سيزر (القيصر) حاضرة. بيوت سورية ومشافيها وأسواقها المدمرة حاضرة جداَ. لا يزال مفعول السلاح الكيميائي حاضراَ جداَ جداَ، حتى عند أرواح من استخدمه.

الأهم من ذلك كله أن هناك من لا يزال مصمما على الخلاص، طالما عقله ونفسه يعملان. سـ"تخلص" وستعود سورية إلى سكة الحياة؛ ولكن حرة من الاستبداد والاستعباد والتزييف والبيع الرخيص من أجل بقاء الطغمة. هذا ليس تفكيراً رغبوياً؛ إنه المسار الطبيعي للتاريخ؛ حتمي، حتى ولو طال الزمن.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: يحيى العريضي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ