ثلاث بلطات وفؤوس سورية كثيرة
ثلاث بلطات وفؤوس سورية كثيرة
● مقالات رأي ٢٣ أغسطس ٢٠١٧

ثلاث بلطات وفؤوس سورية كثيرة

تنطلق هذه المقاربة التأملية عن بعد، والملتاعة إلى أبعد الحدود، من وجهة نظر كاتب ظل مؤيداً للثورة السورية من دون تردد، ومنافحاً عنها طوال الوقت، ابتهج لها في محطاتٍ عديدة، وأشفق عليها لكثرة ما تخللها من أخطاء، إلا أنه بقي يرى فيها العنصر المسارع لحدوث تحولاتٍ أكبر طال انتظارها في الإقليم كله، ويعتبرها إحدى أهم الثورات الشعبية العربية المعاصرة، كون نتائجها المرجوّة لا تخاطب مستقبل البلد الأشد أهمية في المشرق العربي، وإنما تفيض عن جغرافيته الحاكمة إلى المحيط المجاور كله.

على هذه الخلفية التوضيحية، يسمح المرء لنفسه بتشخيص المآلات الأخيرة لهذه الثورة اليتيمة بحذر وتحوّط، ويجتهد بحسن نيةٍ في تحديد أهم العوامل التي تضافرت معاً لحرف الثورة عن مسارها أول الأمر، ودفعها نحو دروبٍ ليست دروبها بعدئذ، عبر إقحام دخلاء عليها من كل سحنةٍ وملةٍ، ناهيك عن تشويه خطابها وصورتها وأهدافها المعلنة، ومن ثم السعي إلى إضعافها وتفتيتها أكثر فأكثر، تمهيداً لوأدها بكل السبل الممكنة، بما في ذلك حصارها من الخارج، والتآمر عليها من الداخل، على نحو ما تقصّه علينا وقائع السنوات الثلاث الماضية.

وأحسب أن عدة فؤوس متفاوتة الأهمية ضربت جذع هذه الثورة، بعضها بتطرّف ممجوج وسوء نية، وبعضها الآخر جرّاء ضحالة التجربة والعشوائية السياسية، وهي فؤوسٌ لا يتسع المقام هنا لتعدادها، وإن كان معظمها من إنتاج عوامل محلية قد لا تكون محل اتفاقٍ واسع النطاق، غير أنها تسببت في ما آلت إليه ثورة الحرية والكرامة من فوضى عارمة، وأسهمت كل واحدة منها في إضعاف هذا التمرد الشعبي الهائل ضد جمهورية الصمت والخوف، إن لم نقل إنها قلبت أنبل صفحات الثورة لصالح أشد فصولها مدعاة للتحسّب وعدم اليقين والحسرة على التضحيات والدماء والخراب، والآمال المقصوفة.

لذلك، تخصص هذه المطالعة، ليس لتعداد تلك الفؤوس المكسورة، على أهمية بعضها، بل لبيان هويات تلك البلطات التي كان لها الأثر الحاسم في ضرب جذع الثورة المغدورة، وهي ثلاثُ، عملت على نحو مستقل، وفي فترات زمنية متعاقبة، كلٌّ لحسابها الخاص، ولمنفعة النظام في نهاية المطاف، حيث صبّ الحطّابون الكبار جام نزعاتهم الاستئصالية على ذلك الجذع الذي ما كان له أن يتحمل كل هذه الضربات الموجعة إلى أجل غير معلوم، فكان ما كان من نتائج وتداعيات ومضاعفات باتت تُلمس باليد، وتُرى بالعين المجرّدة.

تمثلت أولى هذه البلطات في ظهور تنظيم الدولة الإسلامية الذي راح يوجه سلاحه من داخل المناطق المحرّرة من قبضة النظام إلى وجود الثورة ذاته، حيث أخذ يستنزف المقاتلين، ويسطو على معسكراتهم وأسلحتهم، ويثخن فيهم بلا هوادة، الأمر الذي شكل التنظيم معه تحالفاً موضوعياً مع النظام القاتل، وقدم له أجلّ خدمة كان يشتهيها منذ بدأت المظاهرات السلمية في ربيع العام 2011، أي وصم الثورة بالإرهاب، ووضع السوريين والعالم أمام خيارين، أو قل بين بديلين؛ السيئ والأسوأ، أي إما نظام الاستبداد الأسدي أو تنظيم الدولة الإسلامية المجمع عليه دولياً تنظيما إرهابيا كامل الأوصاف.

ثاني هذه البلطات التدخل الروسي على رؤوس الأشهاد، باسم الحرب على الإرهاب، فيما كان هدفه شبه المعلن الحفاظ على النظام المنهك، وذلك بعد أن فشلت المليشيات الشيعية وقوات الحرس الثوري الإيراني في هذه المهمة التي تكفلت القوات الجوية الروسية القيام بها بوحشيةٍ أعادت إلى الأذهان أفعالها المشينة في الشيشان، فكانت هذه البلطة الثقيلة المعول الأكثر فاعلية في ضرب الثورة التي كانت تشارف عتبة انتصار كبير، ليس فقط في حصار حلب وتدميرها خصوصا، وإنما في انفرادها شبه المطلق في الملعب السوري، ومن ثمّ نجاحها في تمزيق شمل الثوار، عبر ما سميت الهدن والمناطق منخفضة حدة التوتر.

أما ثالث هذه البلطات وأشدها تحطيباً في شجرة الثورة السورية، فقد تمثلت في ذلك المشهد الانقسامي المروّع الذي ظل مصاحباً للثورة منذ بداياتها المبكرة، بل وكان يتفاقم مع مرور الوقت إلى أن بلغ حد الاقتتال بين رفاق السلاح، وهم تحت الحصار المطبق، فضلاً عن التنازع على المناطق والسلاح والنفوذ والمال، الأمر الذي هشّم صورة الثورة في أنظار شعبها ومؤيديها وداعميها، وارتدّ عليها بمزيدٍ من الضعف والانكفاء، فيما راح النظام وداعموه يستفردون بكل فصيلٍ على حدة، ويقضمون أكثر فأكثر من المناطق المحرّرة بالدماء والعذابات، وسط سطوةٍ روسية، سياسية وعسكرية، كانت تحصد الثمار بالجملة، وتتقدّم بلا مصاعب تذكر من الشمال المشتت إلى الجنوب الذي فقد فيه الثوار استقلاليتهم إلى حد بعيد.

فيما كانت البلطة الثالثة تواصل العمل بلا توقف، بيدٍ سورية خالصة، كان الأداء السياسي للمعارضة المشتتة، بمكوناتها وألوانها المختلفة، أشد بؤساً مما كان عليه حال الفصائل العسكرية، حيث أخفقت هذه المكونات المتنافسة على المناصب الاسمية، المتنابذة فيما بينها، على الحصص التمثيلية، وعلى الصور الانطباعية والميكروفونات وغير ذلك، في إقامة جسم سياسي متماسك يمثل الثورة، ويتحدّث باسمها بصوت واحد، أو إنتاج قائد وطني محل إجماع نسبي، على غرار ما استقرّت عليه تقاليد المناضلين والثوار في كل مكان، وما تفيض به تجارب الجزائريين والفيتناميين والفلسطينيين، وكل من خاض غمار المواجهات غير المتكافئة.

وليس من شكٍّ في أن الثورة قد أصيبت، بدورها، بالإعياء الذي كان يشي بعطبٍ ما، وقع في مكانٍ ما، شأنها في ذلك شأن كل الثورات التي يطول بها المقام بين كرٍّ وفر، ولا تستطيع الحسم في أجل منظور، وهو ما تجلى على أوضح صوره في مواقع ميدانية عديدة، كان فيها الثوار يختفون لصالح المجاهدين الذين تقدّموا الصفوف، وتسيّدوا المشهد تدريجياً، وباتوا الوجه الأبرز، وأصحاب اليد الأطول، والوزن الأثقل، لا سيما في الشمال، حيث الحاضنة الأكبر والأوسع للثورة التي آلت إلى الجماعات الدينية والفصائل المحسوبة على السلفية الجهادية، مع قليلٍ من الاستثناءات الهامشية في نطاق المشهد العام.

ليس المراد هنا تأبين الثورة السورية، ولا إعلان اليأس منها، على الرغم من قتامة ما يعتور الصورة الكلية من مظاهر تبعث على الكآبة، وتدعو الى الإحباط، بل هذه مناصحة قد تكون متأخرة بعض الشيء، لاستدراك ما يمكن استدراكه من نواقص وعيوب وأخطاء، وتصحيح كثير مما ينبغي تصحيحه قبل فوات الأوان، بما في ذلك إجراء المراجعات العميقة، وتدوير الزوايا الحادة، وبناء التحالفات المجدية، بلا تردّد أو تأخير إضافي.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: عيسى الشعيبي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ