حتى لا تحِلّ أستانة محل جنيف
حتى لا تحِلّ أستانة محل جنيف
● مقالات رأي ٧ مايو ٢٠١٧

حتى لا تحِلّ أستانة محل جنيف

شيئاً فشيئاً تتحول الاجتماعات في العاصمة الكازاخستانية أستانة إلى بديل لمفاوضات جنيف. صممت هذه الاجتماعات وأخرجتها الدبلوماسية الروسية، بالتنسيق مع طهران والنظام في دمشق، ثم جذبت إليها تركيا، ولاحقاً المعارضة السورية وموفد الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. وبينما يتردّد دائماً أن الهدف من الاجتماعات هو وقف إطلاق النار وتنظيم هدنات، تعمل موسكو على منح صفة سياسية لهذه الاجتماعات، ابتداء من تصويرها "مطبخاً خلفياً" لمفاوضات جنيف، وأنها تشقّ الطريق وتمهدها أمام تلك المفاوضات. ومن أجل تغليب الطابع السياسي على هذه الاجتماعات، فإن نظام دمشق يتمثل فيها بوفد سياسي، هو نفسه الوفد إلى جنيف، مضافاً إليه مستشارون عسكريون وأمنيون، بينما يقتصر تمثيل المعارضة على قادة فصائل المعارضة.

شيئاً فشيئاً، وأمام انعدام المبادرات من أصدقاء سورية، فإن استئناف مفاوضات جنيف أصبح مرهوناً بما يجري في أستانة، والأولوية هي هناك. وابتداء من الأربعاء الماضي (3 مايو/ أيار الجاري) عقدت جولة رابعة، من دون رؤية أية نتيجة على الأرض للاجتماعات السابقة سوى تهجير المدنيين من ريف دمشق ومن حمص، وسوى تواصل قصف الطيران مناطق سكنية في إدلب ودرعا، ومشافي ومراكز الدفاع المدني هنا وهناك. حتى صباح الخميس، كان وفد المعارضة يرفض الانضمام إلى الاجتماعات لعدة أسباب، من أبرزها أن الطرف الذي يقدّم نفسه ضامناً لاتفاق وقف إطلاق النار، وهو روسيا، لا يتوقف قصف طيرانه على مرافق مدنية.

يُعيد البيان الذي أصدرته المعارضة التذكير باتفاق تركي روسي على وقف إطلاق النار جرى في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وتم إيداع وثائقه في الأمم المتحدة، لكن النظام وحلفاءه لم يسبق أن التزموا بما يتم الاتفاق عليه.. والمؤسف أن الطيران الروسي طرفٌ أساسٌ في الخروق الجسيمة.

في الدورة الجديدة لاجتماعات أستانة، تقدّم الطرف الروسي خطوةً أخرى، طارحاً فكرة تتلاقى مع المقترح التركي والأميركي، ومع مطلب المعارضة إنشاء مناطق آمنة. وقد جاءت مبادرة موسكو هذه لقطع الطريق على واشنطن، وعلى اللقاء بين الرئيسين دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان، قبل أن تتبلور فكرتهما نحو المناطق الآمنة. وقد جاء الطرح الروسي ليستبدل مطلب مناطق آمنة، وكذلك ليستعيض عن مطلب وقف إطلاق النار، بمقترح مناطق تخفيف التصعيد، وهي تسميةٌ مخاتلة تسمح بالتنصل من الالتزامات، ما دامت الأمور غائمةً على هذا النحو. إذ بعد 74 شهراً من إطلاق النيران، بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة، وبغير توقف، فإن وقف إطلاق النار لا يمثل بعد هدفاً راهناً، بل المطلوب تخفيف التصعيد فقط، ما يثير تساؤلاتٍ جدّية حول: كيف يمكن قياس تخفيف التصعيد، وما هي معايير التصعيد، ومحدّدات تخفيفه؟ يتحدّث المقترح، كما تم تسريب بعض بنوده، عن دول ضامنة، ودول قد تشارك في قوات فصل. ومن بين الدول الضامنة إيران التي أعلن مسؤولون فيها، عشية اجتماعات أستانة، عن إرسال مزيدٍ من القوات الإيرانية البرية إلى سورية، من أجل مواصلة "الجهاد المقدّس" فيها.

استرعى الانتباه أن الرئيس التركي، أردوغان، الذي عقد لقاء قمة مع الرئيس فلاديمير بوتين، تزامناً مع افتتاح اجتماعات أستانة، أبدى تأييداً مبدئياً للطرح الروسي، مُذكّراً أنه لطالما دعت بلاده إلى هذا المطلب، من دون الدخول في تفاصيل، وقد تسرّب أن أنقرة طلبت إضافة منطقة رابعة في ريف اللاذقية إلى المناطق الثلاث التي اقترحتها موسكو في ريف دمشق وإدلب وريف حماة. ومع توارد الأنباء عن وثائق أربع أعدّتها موسكو، فالثابت أن الجدل حولها سوف يستغرق وقتاً، وكذلك الجدل لدى البدء بتطبيقها، إنْ قُيّض لهذا التطبيق أن يتم. لكن، هل سيتوقف إطلاق النار خلال ذلك؟ ليست هناك أية ضمانة على الإطلاق، بالنظر إلى تجارب عديدة سابقة. هل سيتوقف استهداف المدنيين والمرافق المدنية؟ لا ضمانة، فلم يسبق لهذه الاجتماعات أن حرّمت استهداف المدنيين والمرافق المدنية أو جرّمته، علماً أن بعض ما سُرّب من وثائق إلى وسائل الإعلام يتضمن "مواصلة القتال ضد جبهة النصرة والأشخاص والجماعات والمنظمات التابعة لها"، وهي صيغةٌ تسمح، وقد سمحت من قبل، بادّعاء إيران ومليشياتها، وكذلك من النظام، أن كل فصائل المعارضة هي على هذه الشاكلة. وذلك في وقت تُطلق فيه أيدي مليشيات إيران اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، إضافة إلى الحرس الثوري، لخوض "جهادها المقدّس" ضد الشعب السوري، وعلى أرض هذا الشعب.. وحجة الدبلوماسية الروسية أن مجلس الأمن لم يُصدر بعد قراراً بخصوص هذه المليشيات، ولو تقدّم طرفٌ بمشروع قرارٍ لمجلس الأمن بخصوصها لأفشلته روسيا.

لمواجهة ذلك، وبصرف النظر عن نتائج اجتماعات أستانة، من المهم التمسّك بمطلب مناطق آمنة يُحظر فيها الطيران، ويتم وقف إطلاق النار بقوة فصل محايدة، وفي مناطق متفق عليها، بما يسمح بعودة اللاجئين إلى ديارهم، ويضع حداً لسياسة الاقتلاع والتغيير الديمغرافي القسري. على أن يتساوق ذلك مع استئناف مفاوضات جنيف، وتطبيق ما تتضمنه مرجعية هذه المفاوضات، بضمانات ورعاية إقليمية ودولية. أما الاكتفاء بما سُمّي تخفيف التصعيد فهو وصفةٌ أو صيغةٌ يسهل استخدامها لإطالة الأزمة، وتحت ادّعاءات شتّى، منها القول إن ما قد يجري ليس تصعيداً، بل تخفيفاً له! والهدف هو جبهة النصرة ومن يشايعها. وفي حالاتٍ سابقةٍ، وبينما كان القصف الجوي والمدفعي يتواصل في مناطق عديدة، ويسقط المدنيون يومياً وبالعشرات، كانت التصريحات من هنا وهناك تصدر وتتحدّث أن وقف إطلاق النار يجري احترامه بصورة كبيرة!، وقد انزلق المبعوث الأممي من قبل إلى إطلاق مثل هذه التصريحات المُجافية للواقع والوقائع. وها هو المبعوث قد حضر إلى أستانة بصفة مراقب، في رسالةٍ ضمنية من منظمي هذه الاجتماعات مفادها بأن المنظمة الدولية التي تمثل كل دول الأرض وشعوبها لا يحق لها المشاركة، أو التذكير بالقرارات الدولية الصادرة عنها، وذات الصلة بالأزمة السورية، والواجبة الاحترام والتنفيذ. وواقع الحال أنه قُصد من اجتماعات أستانة، في الأساس، إقصاء المنظمة الدولية والمجتمع الدولي وأصدقاء سورية، ومنح إيران مكافأة معنوية سخية، نظير جهادها، وهي ومليشياتها ضد شعب سورية، ومضاعفة المحنة التي يتجرّعها هذا الشعب العربي.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: محمود الريماوي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ