داعش الخطر المُحدق
داعش الخطر المُحدق
● مقالات رأي ٢٩ ديسمبر ٢٠١٧

داعش الخطر المُحدق

توالت في الفترة القريبة الماضية هزائم هذا التنظيم الإرهابي وبان في أكثر من موقع انكماشه وخسارته لمناطق كثيرة منها ماهو استراتيجي في سوريا والعراق والذي كان قد فرض سيطرته عليها لسنوات عديدة , ما أدى لخلخة في صفوفه وهروب الكثير من أفراده , وهذا ما تمت ملاحظته بالفعل .

دفعت هذه الإنجازات العسكرية الكبيرة بعض الدول لإعلانها النصر "المُعجّل" على مايسمى تنظيم الدولة , فكثرت الخطابات وتوالت البيانات مع عجزٍ تام من جميع الأطراف "المنتصرة" على تقديم صورة واحدة تدعم هذه الانتصارات , فداعش الذي استطاع أن يصل وينفذ إجرامه في دول عديدة منها القريب من مركز (خلافته) ومنها الذي تعدى حدود البحار والمحيطات , لكنه لم يستطع أن يصمد كثيراً في مناطق سيطرته التي حكمها بالنار والحديد , مايجعل الأمر أمام ريبة كبيرة وتساؤلات عديدة , و وضع العديد من الاحتمالات حول مصير هذا التنظيم الإرهابي الذي عاث فساداً وإجراماً في الأرض .

 ولكن المفهوم الإستراتيجي يُحتّم علينا قراءةً  في سطور هذا التنظيم الإرهابي

أولها فكري ومنهجي :
لاشك بأن مايسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام قد قدّم نفسه كمنتهجٍ للمنهج السني الخالص دون شوائب أو اضافات كأقرب ما يكون لنهج القاعدة (الشقيق التوأم له) والذي ما لبث أن انفصل عنه وأعلن حربه ضد القاعدة ليصبح تنظيم القاعدة ألدَّ خصومه ,وذهب تنظيم الدولة ليُطبّق فكره وينشر دعوته , فنراه تارةً يُحارب البدع ( ما ظهر منها وما بطن ) وتارةً أخرى يُحارب الصوفية وأخرى يُحارب أصحاب الأضرحة ويفجرها بالقوة ,وتارة يستهدف خطباء المساجد ويمنعهم من اعتلاء المنابر إلا بتصريحٍ وتوجيهٍ منه , واستهداف أهل الذمّة من الأديان الأخرى وتكفير كل من يُخالفهم الرأي ومصير الجميع القتل دون الاستتابة التي أجازها شرع الله تعالى , وتنوعت أساليب القتل لديهم فجاءت بصيغة الإعدام أو بقطع الأعناق أو الإغراق أو الإحراق أحياءً , مستندين على إسقاطات لأحاديث نبوية شريفة يتم تأويلها بحسب الحاجة دون النظر لصحة الحديث أو زمانه وكما يعلم الجميع أن رسالة الإسلام السماوية التي جاء بها نبي الهدى جاءت متواترة بفوارق زمنية انقطع فيها الوحي لعدة سنوات في مكة المكرمة ثم عاد بعدها الوحي الشريف , فنرى بعض الأحاديث النبوية الشريفة ببداية الدعوة في مكة المكرمة جاءت ناهية لأمر معين وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة جاءت أحاديث تُلغي النهي وتُجيز نفس الأمر , كقوله صلى الله عليه وسلم : ( كنتُ قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ) , "وهذا على سبيل المثال لا الحصر"  فالحديث هنا "مدني" بينما كان حديث النهي "مكي" والحديثان صحيحان ولكن الثاني ألغى الأول والسبب هنا لقرب بداية الدعوة من زمن الجاهلية وخشية افتتان المسلمين بأفعال الجاهلية فجاء النهي , وبعد الهجرة واستتباب الأمن والنهج الإسلامي جاء جواز الأمر بتشريع نبوي , أما "داعش" الآخذ بالنص دون السبب ودقة التأويل , عمل ضمن مؤسسة تشريعية متعددة الجنسيات لما يخدم أهدافه الفكرية والمنهجية ليدفع بها إلى التصدير الخارجي الذي رأينا تأثيره على الكثير من البلدان التي أيدته وأدت إلى تمردات واعتناقات منهجية وفكرية انتهت بالولاء والمبايعة لهذا التنظيم أفراداً كانوا أو جماعات ... وهذا من الوجه الأول .


أما الوجه الثاني فهو عسكري وسياسي :
فمن الناحية العسكرية التي صال بها هذا التنظيم وجال حتى جعل نفسه محطَّ أنظارٍ ودراسةٍ لأجهزة استخباراتٍ عالمية عدة , فداعش الذي اتقن فنَّ معارك الاستنزاف للخصوم المدعومة عسكرياً بشكل مهول , ومعركة الموصل كانت خير دليل على اتقان داعش لهذا النوع من المعارك , ولا أبالغ هنا إذا قلت أن داعش قادرٌ على استعادة الموصل وغيرها من المناطق بزمن قياسي إذا انخفض الدعم الجوي (فقط)  للمليشيات الشيعية والكردية لأسباب عديدة أهمها :

- أنّ هذا التنظيم يعتمد في أكثر معاركه مفاهيم "الكتلة العسكرية المرنة" التي تنسحب بسلالة ثم تًهاجم بسرعة البرق ثم تنسحب ثم تعاود الهجوم , ويعتمد التنظيم في هذا على سرعة مقاتليه وسهولة حركتهم مستخدماً آليات رباعية الدفع تضمن له الحركة بشتى أنواع الظروف والطرقات وأسلحة خفيفة ومتوسطة, مبتكراً بذلك مفهوماً عسكرياً جديداً يستطيع من خلاله إرباك صفوف خصومه , مايعني أنه قادر على تغيير مفهوم الهجوم العسكري الكلاسيكي .

- يعتمد هذا التنظيم على الأفخاخ العسكرية أو ما يُعرف بالانسحابات التكتيكية , وهو بذلك يوجه خصومه للمسار الذي يريده بغية الإيقاع بهم مستفيداً من رغبتهم بتحقيق تقدمٍ جغرافي على حساب داعش الذي يقوم بزرع الألغام في المناطق التي ينسحب منها ما يجعلها نقاط استنزافٍ جديدة تستوجب على الطرف المهاجم البطء بالتقدم وتمشيط المنطقة مع تعطيل كبير لقوته الهجومية , ما يجعل تلك القوات عرضةً لهجمات ارتدادية أو إلتفافية يُتقنها داعش جيداً .


أما من الناحية السياسية :
فهذا التنظيم يعرف تماماً كيف يختار خصومه , موظفاً بذلك المتغيرات العسكرية الميدانية , فبعض الانسحابات التي يقوم بها يكون هدفها سياسيٌّ وليس عسكري , إذ أنه يضع خصومه (المتنازعين أصلاً) ,يضعهم وجهاً لوجه على خط الاشتباك , وقد نجح إلى حدٍ كبير في خلق تغيراتٍ وتحالفاتٍ جديدة , فهو الذي وضع القوات الكردية ( الراغبة بإنشاء دولتها ) , وضعها بمواجهة مباشرة مع الميلشيات الشيعية والإيرانية ( المتقدمة أصلاً على حساب داعش ميدانياً والرافضة لفكرة المشروع الكردي ) في كركوك والسليمانية والموصل في العراق  , ووضع قوات "قسد" المدعومة أمريكياً بمواجهة مباشرة أيضاً مع قوات النظام الأسدي المدعومة روسياً , موجداً بذلك نقطة تماس عسكري بين روسيا وأمريكا وجميع فصائل الطرفين العاملة على الأرض , وأوجد داعش أيضاً نقطة تماس عسكري أخرى بانسحابه من منطقة الباب السورية لحساب قوات درع الفرات المدعومة تركياً والتي وجدت نفسها أمام قوات النظام الأسدي المُهجّنة روسياً من جهة ومن جهة أخرى أمام قوات الميليشيات الكردية المسيطرة على عين العرب ومنبج وتل رفعت وتحلم بالوصول الى جرابلس السورية , وبهذا يكون تنظيم الدولة قد أعفى نفسه من عناء المواجهة العسكرية آخذاً بذلك قسطاً من الراحة ومزيداً من الوقت لرأب الصدع الذي أصاب جسده التنظيمي .


داعش وإستراتيجية المستقبل :
داعش الذي لم ينتهي كما صوره الكثير "إعلامياً" ,وهذا ما أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الأول , فخطره مازال قائماً وقد يقوم على تغيير سياسته العسكرية الهجومية في المستقبل , مُعتمداً في ذلك على مقاتليه الذين انسحبوا عائدين إلى أوطناهم ومازالوا يُدينون له بالولاء المُطلق كخلاياه النشطة أو النائمة في كثير من البلدان العربية والأوروبية , وقد تُساعده في ذلك الأوضاع الأمنية من ناحية والاقتصادية من ناحية أخرى , وهذا ما قد يُساهم في إعادة بناء صفوف مقاتليه وعودة خطره بسرعة هائلة .

ويبقى الاحتمال الأغرب قائماً إذا ما اعتبرنا أن داعش نأى بنفسه عن صراعات القوى العالمية والإقليمية واضعاً نفسه بمكان "المتفرج" , منتظراً عرضاً مُغرياً من إحدى الأطراف المتصارعة للاستفادة من خدماته , فداعش صاحب الميزات العظيمة , حيث أنَّ مُقاتليه يتبخرون ولا يُقتلون أو يُؤسرون والمليارات التي ينهبها من البنوك أو التي يجنيها من بيع النفط والغاز والآثار لا تظهر أبداً ...!!!

المصدر: ترك برس الكاتب: فهد الرداوي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ