داعش في كل مكان: البحث عن الخلاص بين أنقاض العروبة وإسلام جديد لا نعرفه
داعش في كل مكان: البحث عن الخلاص بين أنقاض العروبة وإسلام جديد لا نعرفه
● مقالات رأي ٢٠ نوفمبر ٢٠١٤

داعش في كل مكان: البحث عن الخلاص بين أنقاض العروبة وإسلام جديد لا نعرفه

العديد يتساءلون عن الأسباب وراء الشعبية المتزايده التي يتمتع بها الآن تنظيم “داعش” خصوصاً في أوساط الشباب والفقراء . وبالرغم من وحشية الأساليب التي تتبعها تلك المنظمة في قتل من تريد دون إكتراث حتى للحيثيات القانونية أو التبريرات العـقائدية لذلك القـتل ، وبالرغم من التمادي في التعبير العلني عن نواياها الدموية ، إلا أن تلك الشعبية ما زالت تنمو بإضطراد . صحيح أن النجاح يولد مزيداً من النجاح ، وأن ما أحرزته داعش من نجاحات في دك حصون الأمر الواقع في العديد من الدول قد دغدغ عواطف الجماهير الغاضبة ، إلا أن غموض الأهداف النهائية لهذا التنظيم يجعل من موضوع ازدياد شعبيته أمراً في غاية الخطورة على مستقبل المنطقة  .
يـُعتبر تنظيم داعش أحد أهم قنوات التغيير المفتوحه حالياً أمام العرب . إن الظروف التي رافقت ظهور داعش والغموض الذي إكتنف بداياتها دفع الكثيرين ، وعن حق ، إلى الشك في أصولها وارتباطها بأجهزة مخابرات غربيه وعربيه ساهمت في خلقها وتمويلها وتدريبها . ولكن نجاح داعش السريع على الأرض وقدرتها على الأنتشار والأنتصار جعل منها الآن الخيار الأهم أمام العديد من الراغبين في التغيير . ولكن كيف انتقلت داعش من صفة العمالة والتبعية التي صبغتها منذ تأسيسها لتصبح ملاذاً وخـَيَاراً للعديد من الساخطين والغاضبين والراغبين في التغيير ؟؟
التغيير الأساسي لم يأتِ من داعش ولكنه جاء من موقف الجماهير منها . فنجاح داعش على الأرض ساهم في تحويلها من تنظيم صغير إلى مفهوم وفكرة (concept) تتجاوز حدود العلاقة التنظيمية التقليدية وساهم إلى درجة كبيرة في أسر أفئدة وعقول الكثيرين خصوصاً من جيل الشباب الذي اعتبرها المخرج الوحيد الناجح والمتاح أمامها وأمام الشعوب التي تعاني من أوضاع مأساوية في العديد من الدول العربية . فالألتزام بفكرة أو بشعار أسهل بكثير وأقل تعقيداً من الألتزام بعقيدة أو بتنظيم والدخول في تعقيدات العلاقة التنظيمية .
لا توجد أسس محددة تؤَطـﱢر عداء داعش لهذه الدولة أو تلك .  فدولة عربية مثل الأردن مثلاً فيها ميولاً شعبية داعشية واضحة خصوصاً في بعض مدنها مثل معان التي تمتلئ  جدران مبانيها بشعارات التأييد لداعش وكذلك مدن الطفيلة والزرقاء ولكنها مع ذلك تبقى بعيدة عن اهتمامات داعش وتهديداتها ، بينما دولة عربية أخرى لها تاريخ معروف في احتضان الحركات الأسلامية خصوصاً السنية مثل السعودية تتعرض لتهديدات داعش ، في حين أن دولة مثل مصر علاقاتها مع الحركات الأسلامية في الحضيض تتعرض هي الأخرى لتهديدات داعش ، بينما إسرائيل ، الدولة الغاصبة لفلسطين وللمسجد الأقصى والقـدس ، لم تتعرض لأي تهديد من داعش أو انتقاد لها حتى وهي تقصف غزة قصفاً قاتلاً ، وهذا ينطبق على أمريكا وسياساتها المعادية للحقوق العربية في فلسطين وغير فلسطين والقائدة للحلف الدولي المناهض لداعش ، لم تتعرض هي الأخرى لأي انتقاد أو تهديد من داعش ! ولكن كيف يمكن تفسير هذه المواقف المتناقضة ؟
من الواضح أن وجود هذا التناقض يعني أن أسس العداء الداعشي للغير ليست عقائدية أو دينية بل سياسية تمليها مصالح وأهداف غامضة تبعث على الشك والريبة . فالأنتقال في مسمـّى تنظيم داعش من تنظيم “دولة الأسلام في العراق وبلاد الشام” إلى “تنظيم داعش” ومن ثم “الدولة الأسلامية” ليستقر الآن تحت مسمى تنظيم “الدولة” لم يأت عبثاً بل له مدلولاته التي تعزز الشكوك بأهدافه الغامضة .
إن التلاعب بمسميات داعش هو جزء من عملية غسيل الدماغ التي يتعرض لها العرب وهو أسلوب متعارف عليه في الصراع السياسي . والهدف من عملية غسيل الدماغ هذه هو غرس القناعة لدى الناس العاديين بأن هذا التنظيم المسمى تنظيم “الدولة” سوف يؤدي إلى إنشاء “دولة” . وإذا ما تم دمج هذا المخطط بمخطط آخر موازي له تؤكد فيه أمريكا على  أن عملية القضاء على تنظيم “الدولة” ، أي داعش ، سوف تأخذ مدة زمنية طويلة قد تصل إلى ثلاثين عاماً في حين أن احتلال دولة مثل العراق لم يستغرق سوى أيام ، يتضح لنا أبعاد هذا المخطط وهو إعطاء داعش الوقت الكافي لخلق أمر واقع جديد في المناطق التي تسيطر عليها يؤدي مع مرور الوقت إلى إنشاء “الدولة” أو “الدول الداعشية” على أنقاض بعض الدول العربية المستهدفة مثل العراق وسوريا وليبيا والسعودية الخ .
إن تاريخ داعش القصير ونجاحاتها الباهرة في فترة وجيزة قد عزز الشكوك في أصولها وارتباطاتها . ولكن ذلك لم يشكل عقبة أمام ازدياد شعبيتها في ظل غياب الخيارات الأخرى الفاعلة أمام الأجيال الجديدة من الشباب والشابات اللذين يشعرون بالغضب والأحباط والرغبه الدفينة في تغيير الواقع المرير الذي يعيشونه من جهة ، والأنتقام من الأنظمة الفاسدة والمستبدة التي يعتبروها الخصم الحقيقي وعدو الشعب من جهة أخرى . الوضع هو أقرب إلى نشود الخلاص عن طريق الأنتحار . إن ما نحن بصدده هو محاولة لفهم  الأسباب الموضوعية نحو جنوح العديد من الشباب للأنضمام إلى داعش والقيام ، بالتالي ، بسلوك اجرامي لا يقبله عقل كوسيلة لتحقيق الأهداف ، وكذلك انضمام العديد من الفتيات إلى داعش وتقديم أجسداهن قرباناً لمن شاء من أعضاء داعش من الذكور واعتبار ذلك جهاداً حلالاً من أجل القضية “الداعشية” . والتفسير المنطقي الوحيد لهذا السلوك الأنتحاري هو الفراغ القاتل الذي خلقته الأنظمة الأستبدادية داخل مجتمعاتها وَسَعَتْ من خلاله إلى إغلاق منافذ العمل السياسي الديموقراطي أمام أفراد المجتمعات التي تحكمها .
إن الفراغ الشامل الذي صبغ الحياة السياسية في معظم الدول العربية ، وافتقاد الأجيال الجديدة من الشباب إلى إمكانية إحداث التغيير المنشود داخل مجتمعاتها واستمرار بل وتفاقم حالة الفساد والأضطهاد ، قد دفع الأجيال العربية الجديدة إلى البحث عن مخرج تـُعَاقـِبْ بموجبه تلك الأنظمة . والهدف في هذه الحالة هو إلحاق أكبر أذى ممكن بها عقاباً لها على ما فعلته بمجتمعاتها و دُوَلها مما أوصلها إلى الحضيض . وهكذا ، اكتشفت داعش أن لديها مخزون كبير من الحطب البشري الذي تستطيع حرقه للوصول إلى ما تريد ، واكتشفت أجيال الشباب أن هنالك محرقة يمكن أن تستعملها لتغيير الواقع المرير الذي تعيشه بغض النظر إذا ما كان ذلك التغيير هو المنشود وبغض النظر عن تبعات مثل ذلك التغيير على مستقبل المنطقة وشعوبها .
إن هـذا النمط من السلوك الأنتحاري المُدَمـﱢر هو أقـرب ما يـكون إلـى مفـهوم          “الفـوضى الخلاقـة ” “creative chaos” الذي طرحته الولايات المتحدة على لسان وزيرة خارجيتها كوندوليزا رايس إبان حكم جورج بوش الأبن . فأمريكا تؤمن بأن تغيير الأمر الواقع (Status quo) يتطلب أولاً حرق الواقع الموجود تمهيداً لتغييره بشكل كامل وليس اصلاحه . وهذا ، على ما يبدو هو الهدف الحقيقي وراء إنشاء تنظيم داعش ودعمه إعلامياً وتسهيل أموره المالية والتدريبية والتسليحية .
إن “الفوضى الخلاقة” قد تؤدي إلى فوضى عارمة تفتح الطريق أمام وضع جديد قد يكون نحو الأسوأ وقد يكون نحو الأفضل كونه لا يستند إلى برنامج عمل محدد بل إلى فعل وردود فعل جامحة تهدف إلى هدم ماهو قائم أولاً . إن الذي جهـﱠـزَ الأرضية أمام هذا المشروع، أي “الفوضى الخلاقة” ، هو استفحال أنظمة القمع والفساد التي سادت العالم العربي ، عِلـْماً أن رسم سياسة أمريكا في المنطقة تستند في جزء منها إلى درجة ضعف أو قوة الأنظمة العربية والموقف العربي من قضايا المنطقة . ولو نجح مشروع الأخوان المسلمين مثلاً في مصر وليبيا واليمن وتونس وسوريا لكان هو البديل المفـَضـﱠل أمريكيـاً لبرنامج “الفوضى الخلاقة” حيث يتم إدخال العالم العربي في حقبة “سُبَاتٍ سَلَـَفي” يجعل “الماضي” هو “المستقبل” ويـُعيد البشر قروناً إلى الوراء. ولكن فشل مشروع “دولة الخلافة الأسلامية” كمدخل بديل عن برنامج “الفوضى الخلاقة” ، جعل المشروع الأمريكي ينحاز نحو الخيار الداعشي لإحداث التغيير من القاعدة إلى القمة عوضاً عن الخيار الأسلامي الأخواني الذي فشل في إحداث التغيير من القمة إلى القاعدة .
أمريكا ليست بالحصن المنيع أمام ارادة الشعوب الحية اذا ما توفرت تلك الأرادة . ومن هنا كان اعتماد أمريكا الشديد والأساسي على الأنظمة العربية العميلة والمستبدة لسحق إرادة شعوبـها ، وهذا يعني أن الحلف الأقوى هو ذلك الحلف بين أمريكا والقوى المؤيدة لها داخل مجموعة الدول العربية المُستـَهدَفـَةِ من مخطط التغيير من خلال برنامج “الفوضى الخلاّقة” .
ومن عجائب الأمور أن الأندفاع الأنتحاري بين أجيال الشباب نحو تأييد داعش أو الأنضمام لها يهدف جزئياً لمعاقبة هذا الحلف الشيطاني بين أمريكا والأنظمة العربية في حين أن أولئك المندفعين يبدوا غافلين عن أن داعش هي النسخة الجديدة من هذا الحلف الشيطاني ، أو هكذا ابتدأت . ولكن إذا كان هذا هو الواقع ، فماهو البديل أمام أولئك الشباب ؟ في الأوقات الحالية لا يوجد بديل فعال ، مما يعني أن البدائل الفعالة أو المقنعة  قد تكون إما معدومة أو متباينة في شيطانيتها . البديل الحقيقي وإن بدا عاطفياً هو في العودة إلى ما يجمعنا كعرب وفي الأبتعاد عن ما يفرقنا . الأداة الأهم التي استعملها أعداؤنا لتفريقنا وتحويلنا إلى شعوب وقبائل متناحرة هي من داخلنا وهي الأنظمة التي حكمت العالم العربي منذ منتصف القرن الماضي ، وعلى العرب العمل على تجاوز الآثار السلبية التي علقت بالعروبة من جراء حـُقـَبْ الأستبداد التي تجاوزت نصف قرن من الحكم الجائر المستبد . والهدف يجب أن يكون في إعادة تمتين الروابط القوميه الثقافيه والعلمية والأكاديمية والفنية والمهنية والنقابية لتعويض الخلل الذي سببته الأنظمة في الحياة السياسية العربية والأقتداء بالتجربة التونسية كنبراساً هادياً لكيفية إعادة بناء اللـُحْمة الوطنية التي تعتبر أساساً هاماً وضرورياً لبناء اللـُحْمة القومية .
ترى لماذا أنشد محمود درويش وهو تحت الأحتلال “سَجـﱢل …. أنا عربي” ولم يقل “سَجـﱢل … أنا فلسطيني” ؟ لقد قال ذلك لأنه يعلم بأن العروبة هي الوعاء الأكبر وهي الوعاء الحافظ .

المصدر: رأي اليوم الكاتب: د. لبيب قمحاوي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ