داعش منّا ونتاج التخلف بيننا
داعش منّا ونتاج التخلف بيننا
● مقالات رأي ٨ نوفمبر ٢٠١٤

داعش منّا ونتاج التخلف بيننا

لدى الحديث عن داعش، أو من في حكمها من التنظيمات الإسلامية المتطرفة، التي تمارس إرهاباً تحت سقف الفكر الإسلامي السلفي، وبالتحديد ذلك الذي يأخذ بالشكل لا بالجوهر، ولا يعتد بالواقع، ولا بمعطياته، ويتجاهل، كذلك، النصوص الإسلامية التي تأخذ بحركة الحياة ونموها المستمرين، ويهمل، أيضاً، حاجة الفكر الإسلامي إلى من يجدده، ولا يلغيه بالتشدد والتحجر، أو يكرِّه الناس فيه بالممارسات القميئة، البعيدة عن روح العصر.

أقول لدى الحديث عن داعش، وماهية بنيتها وتكوينها، يحيلك المتحدثون، وخصوصاً إذا كانوا من المسؤولين الحكوميين ذوي المصالح والانتفاع، في هذه الدولة العربية أو تلك، إلى خصومهم المتآمرين عليهم، فهؤلاء في نظرهم، من يصنع هذه التنظيمات، ويرسلها إلى بلدانهم، لتعيث خراباً فيها، وفي مجتمعاتهم (السليمة الآمنة..)، وفي أنظمة حكمهم (الرشيدة!)، وعندما يخطر في بالك أن تبحث عن الأسباب الحقيقية، ولماذا ينبت الدواعش في هذه الدولة أو تلك، لا تقتنع بما يقدَّم إليك من مسوِّغات، وبما يروِّجه هؤلاء السياسيون (الحكماء)، وأدواتهم في الميديا الخاصة بهم، وعلى نفقة شعوبهم. ويدفعك الفضول إلى التمعن في كنه داعش، وأمثالها، فتجد التخلف في أبشع صوره، متجسداً في هذه التنظيمات فكراً وممارسة. عند ذلك، تدرك سرَّ اختيار الدواعش هذا البلد دون سواه، فالبيئة الحاضنة هي التربة الخصبة لتنمية الدواعش، وتنشئتهم، فهي التي تؤمن لهم الحماية، وتمدُّهم بالمقاتلين. ولا شك في أنَّ هذه البيئة في عمقها، وبغض النظر عن المظاهر التي تغلِّفها، وما يطفو على سطحها من شعارات براقة، وإعلام مبهرج كاذب، متخلفة مقطوعة عن جوهر الحضارة المعاصرة، يعيش عامَّتُها في الماضي، لا في الحاضر، فما من رؤية مستقبلية لهم أبداً.

وهذا، بالتحديد، ما يمكن رؤيته في بلدان، مثل سورية والعراق ومصر والسودان وليبيا واليمن، وغيرها من البلدان العربية، التي عُوِّل عليها في وقت ما! إذ كان لدى طليعتها، بالفعل، أفق، نهضوي، تهفو إليه النفوس، وترجوه العقول، لكن العسكر أضاعوا، حتى الأوطان، بغبائهم وصلفهم، وضيق أفقهم، وقوة بطشهم، وبجشع حاشيتهم ودناءتها، وبالتفاف ذوي المصالح، وأهل الفساد على أنظمتهم بالتملق والمداهنات الكاذبة، وبالأساليب التي يبتدعها المال بإغرائه، وبما يجلبه من متع ومباهج، تجعل أصحابه يدوسون على القوانين، إن كان ثمة قوانين! نعم، ضيع العسكر الأوطان التي عليهم حمايتها. وإذا ما أخذنا سورية نموذجاً، نرى البيئة الحاضنة قد تجلت في:

الجهل الناجم عن تخلف التعليم، فعلى الرغم من كل مظاهر التعليم وأرقامه وانتشاره على مساحة واسعة من الأرض السورية، لكنه، في الحقيقة، لم يرتق إلى المستوى الذي يمكن أن يكون فيه فاعلاً في العقول، فيحدث تغييراً فيها، ويستبدل ثقافة بأخرى، أو يجدد ما تقادم منها، على الأقل، كما أنه لم يخرِّج عاملين مهرة محررة عقولهم، ومتحركة بآن، لتتفاعل مع ما أسند إليها من أعمال، إضافة إلى أنَّ المعنيين لم يوظفوا مخرجات التعليم بما يخدم التنمية، ثم إنه، أي التعليم، لم يستطع اللحاق بالنمو المرعب للسكان! والأهم، أيضاً، أنه لم يستطع أن يغرس في عقول الناشئة، وفي نفوسهم، الرغبة في المطالعة، لتساهم في تفتيح عقولهم، وتنشيطها لإبداع أفكار جديدة. (حصة العرب من القراءة كتاب لكل ثمانين شخصاً في السنة، يقابلها في إسرائيل أربعون كتاباً للفرد).

سكونية ثقافة الماضي والعيش فيه، إذ لم تستطع الثقافة، على الرغم من زخم انطلاقتها في ستينيات القرن الماضي، وسبعينياته، وعلى الرغم من فيضان شعاراتها القومية والماركسية اللتين ربما كانتا تمهدان للتقدم الحضاري، على أسس علمانية، أو هكذا كان أفق الحلم، أي لم يستطع النظام العسكري، الذي تنطع لهذا الأمر بثيابه المدنية، وواجهاته الإنمائية، أن يخلق ثقافة بديلة، فقد كان شعاره: "الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية"، وكأنما الثقافة معطى ثابت لا يتبدل، أو هي دمية مصنوعة على غير مثال، ينتظر أن يحظى بها الناس، للعب بها حين الوصول إلى قمة الحضارة، بينما الثقافة هي تفاعل يومي وحيٌّ مع حركة الحياة، وعلاقة الناس المؤثرة بها تنامياً وارتقاء مستمرين.
"
على الرغم من كل مظاهر التعليم وأرقامه وانتشاره على مساحة واسعة من الأرض السورية، لكنه، في الحقيقة، لم يرتق إلى المستوى الذي يمكن فيه أن يكون فاعلاً في العقول، فيحدث تغييراً فيها

"

البطالة التي تفاقمت بين جيل الشباب، والخريجين منهم، تحديداً، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، وعجز سوق العمل المحلية عن تشغيلهم، بسبب تراجع التنمية التي شل حركتها الفساد المستشري في دوائر الدولة، ومفاصلها الرئيسية والعليا. كما عجزت العمالة في الدول العربية المجاورة عن استيعاب أعدادهم المتزايدة باستمرار.

وإلا، بماذا نفسر انخراط الشباب في تلك التنظيمات العسكرية، التي ولدت وتنامت على هامش الحراك الشعبي، الذي فرض وجودها، على نحو أو آخر، إذ قوبل، منذ أيامه الأولى، بالرصاص الحي، وفرار هؤلاء الشباب، في الوقت نفسه، من الخدمة الإلزامية، فهنا موت وهناك موت. ثم كيف نفسر سكوت الأهل عن تجنيد أطفالهم، أو اليافعين منهم، لولا ضيق ذات اليد لديهم، وحاجتهم الماسة إلى متابعة حياتهم؟

عدم تعاطي المسجد مع الواقع، وانكباب أعلامه على ثقافةٍ، لا تأخذ بما في الدين من قيم، تدعو إلى العمل والبناء وتتطلع نحو المستقبل، إذ ظل هؤلاء الخطباء في إطار القشور والتقاط حوادث التاريخ المكرورة إلى درجة فقدانها محتواها، ثم العمل على تسكين الناس، وإخضاعهم لسلطة الحاكم، فكل هؤلاء الخطباء والدعاة يعملون تحت إشراف الأمن العسكري مباشرة، ذلك، إضافة إلى الفساد المستفحل في وزارة الأوقاف ومديرياتها في المحافظات، فكانت تتقاسمه هي والبلديات  على حساب المواطنين، وتشويه وجوه المدن السورية. (جل توظيفات الأوقاف الظاهرة في العقارات).

لا شك في أن أموراً كثيرة أخرى، فرعية وتفصيلية، لا ضرورة لخوض غمارها الآن، منها شعور المواطن، الذي يقطن في الأماكن التي جرت فيها الانتفاضات، بالغبن والتهميش والتمييز، وتلك الأماكن هي الأرياف وأغلفة المدن القادمة من الأرياف أيضاً، وكذلك، عموم الفقراء الذين لفظتهم مدنهم من عوز وحاجة وعدم اقتدار على مجاراة القلة المترفة! إضافة إلى الاحتقان الغافي في النفوس، بسبب أحداث الثمانينيات، والإحساس بظواهر طائفية، ولا يفوتنا، بالطبع، أن نشير إلى أن كل ما أتينا على ذكره يأتي على أرضية استمرار الشعور بمرارة هزيمة 1967 الوطنية الكبرى، تلك التي لم يستطع النظام أن يغسل عاره بسببها، على الرغم من وجوده في الحكم، قبل ذلك التاريخ بأربع سنوات، واستمراره إلى اليوم، وتشبثه به إلى الأبد! الأمر الذي جعل الناس يربطون بين فكر الحاكم وشعاراته والنتائج.

عموماً، التخلف، لا غيره، ما أوجد داعش، وهو الذي يفسح المجال لإيجاد شبيه لها بمسميات أخرى، فالتخلف هو أبو الأمراض جميعها. نعم إنه التخلف، بأبعاده الاقتصادية والثقافية والتعليمية، هو الذي مهد الأرض أمام ألوان الدواعش. وإذا كان ثمة "تآمر"، كما يزعم الزاعمون، أو تدخل خارجي، أو أية مبررات أخرى للعب في هذه البيئة المواتية، فيعود، أيضاً، إلى الاستهتار بإدارة الدولة، وإلى الرعونة السياسية، اللتين جاءتا من عماء التمسك بكرسي الحكم، فسمحتا بـ، أو دفعتا الآخرين إلى، التدخل من حقد أو من غيرة، لا على الشعب السوري العريق فحسب، بل على المنطقة برمتها.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: محمود الوهب
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ