دروس في تونس
دروس في تونس
● مقالات رأي ٢ نوفمبر ٢٠١٤

دروس في تونس

جرت الانتخابات البرلمانية في تونس بنجاح مشهود. وبذلك، تم عبور المرحلة الثانية من الانتقال إلى الديمقراطية، بعد مرحلة إقرار الدستور الذي أسس لمشاركة جميع ألوان الطيف السياسي والمجتمعي، وقبيل المرحلة الثالثة الخاصة بانتخابات الرئاسة، وهذه حدد الدستور وظائفها، فخلصها من تاريخها السيء الصيت محلياً وعربياً، وأعادها إلى رمزية تمثيل الوطن وسيادة الدولة.

وقد شهدت المرحلة الانتقالية، التي استمرت حوالي أربع سنوات، صعوبات ومنعرجات، لم تخل من مثيلاتها بلدان أخرى. لكنها أثمرت، أيضا، تجربة غنية من مشاركات المجتمع المدني والسياسي، تمثّلت في حوارات وممارسات ووثائق كثيرة ستبقى مرجعاً لكل دارس. في هذا المجال، تميز على الخصوص، نضج مسار حركة النهضة وقيادتها التي تمكنت من تجاوز مأزق جماعات الإسلام السياسي الأخرى في العالم العربي، عندما تخّلت عن فكرة الاستئثار بالسلطة والحاكمية، وتقبلت واقعياً فكرة المشاركة والاعتراف بالتعددية. وليس أدل على ذلك من مباركتها نجاح حزب نداء تونس، وتقدمه عليها في الانتخابات. في المقابل، تمكنت الحركة العلمانية من تجاوز نخبويتها، وسارت على طريق تغليب البرامج السياسية والاجتماعية على العقائد والأفكار المغلقة، فقبلت شراكة حزب النهضة، ورفضت إقصاء الآخرين، وتجلى ذلك بإعلان حزب نداء تونس، الفائز الرئيس في الانتخابات، أنه لن ينفرد بتشكيل الحكومة، على الرغم من حيازته المرتبة الأولى.

هذا المسار الناجح، لا شك أنه استند إلى خصوصية التجربة التونسية، وتاريخ دولتها بعد الاستقلال، الذي كرّس مدنية الدولة، والحريات الأساسية، فبقي تأثيرهما قوياً، على الرغم من لواحق استبداد زعيم الاستقلال، الحبيب بورقيبة، وخلفه زين العابدين. وإذا كانت تونس أوّل بلد افتتح الربيع العربي، فها هي تمضي بصورة جليّة، في مسار الديمقراطية المزدهر، بينما ما زالت باقي بلدان الربيع العربي تتعثر، وقد دخل بعضها مسار الحرب الأهلية من دون آفاق منظورة.

ويمكن المضي طويلاً في ملاحظة الفروق بين تجربة المسار التونسي ومسار البلدان الأخرى، ومتابعة تحليل عواملها المختلفة، كالنفط والموقع والمكانة والأدوار الإقليمية والدولية وتدخلاتها إلخ. لكن، ما تلفت النظر بين ذلك كله العوامل الذاتية التي كان لها، في رأينا، الدور الحاسم في نجاح مسار الثورة التونسية، وفي تعثر باقي ثورات الربيع العربي، ومنها خصوصاً الثورتيْن المصرية والسورية. وهو دور يتعلق بالبشر الفاعلين، بوعي ونضج الحركة السياسية، بالممكنات التاريخية، بين كل ما يجري الحديث عنه من عوامل موضوعية وذاتية وحتمياتّ.
"
تمكّنت الحركة العلمانيّة من تجاوز نخبويتها، وسارت على طريق تغليب البرامج السياسيّة والاجتماعيّة على العقائد والأفكار المغلقة، فقبلت شراكة حزب النهضة
"

ذلك أن ما قامت به حركة النهضة لم تقم به جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بل قامت بعكسه بالضبط. وذلك تمثّل في توجه "الإخوان" إلى الاستئثار بجميع السلطات، من البرلمان إلى الرئاسة إلى القضاء، على عكس ما كانت قد أعلنته في بداية الثورة، ثم تراجعت عملياً عنه. وبغض النظر عن نجاحها في انتخابات الرئاسة والشرعية وممارساتها، فقد أثار ذلك مخاوف الآخرين من الإقصاء، وعلى صورة تلك المخاوف أو أوهامها، تأسس حلف مضاد ومماثل في إقصائيته، تطورت معه الأزمة التي أدت بالثورة والمجتمع المصري إلى تعثّر وصراع مستمرين.

أما في سورية، فمنذ البدء، رفض النظام فكرة المشاركة وتقبل الآخر، الذي عبّر عنه الحراك السلمي في معظم أرجاء البلاد، وما طالب به الخارجون إلى المظاهرات بعد صمت طويل. وحقاً، كانت لسورية خصوصيتها هي الأخرى في هذا المجال، فهي لم تكن تملك تراث الدولة المدنية، ولا حرياتها الأساسية، بل استندت، طويلاً، إلى قاعدتي الحزب القائد والوراثة الأبوية. ومع دعم الحليف الإيراني الذي اعتبر النظام السوري قلعته الأمامية، والحليف الروسي الجديد الذي وجدها فرصة للعودة إلى المسرح الدولي، لم يكتف النظام برفض المشاركة، بل ذهب، في ذلك، إلى حده الأقصى، في محاولة لإلغاء الآخر، أو إسقاط الشعب، كما ورد في صياغة ساخرة، لكنها شديدة التعبير. وذلك، حين استخدم القوة الفائقة والعنف غير المسبوق في قتل شعبه وتدمير بلداته، كما عمد إلى تهجير الملايين، وتغيير البنية السكانية في مدن ومناطق مختلفة من سورية.

سيتحدث كثيرون عن حتميات ما حدث، وسينشغل المؤرخون والباحثون بالأسئلة عن ضروراته ولزومه، على الرغم، من درس تونس الراهن الذي يشير إلى نجاح البشر الفاعلين في صناعة الممكن تاريخياً، وانشغال ساستهم بما ينفع الناس، بدلاً من تمترس آخرين، أنظمة وأحزاباً ورجالاً، خلف عقائد وممارسات، أحالها التاريخ إلى متحفه. وستزداد الأسئلة مرارة عن سورية، حين نتابع نتائج رفض المشاركة والاعتراف بالآخر، وتحولها على يدي النظام وصنوه الداعشي، إلى إرهاب يعصف بحياة السوريين وأحوالهم تحت سمع العالم وبصره.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: نجاتي طيّارة
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ