روسيا تدخل عنق الزجاجة
روسيا تدخل عنق الزجاجة
● مقالات رأي ٢٩ أكتوبر ٢٠١٥

روسيا تدخل عنق الزجاجة

لم يحدث القصف الجوي الروسي، المكثف وشديد التدمير، أثرا كبيرا على أرض المعركة حيث لم تنجح قوات النظام وحلفائه الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين في تحقيق تقدم كبير في هجومها البري يقلب التوازن العسكري، وهذا وضع روسيا أمام خيارين قاتلين: مزيد من الانخراط في الصراع في سوريا وعليها أو الانسحاب منه. خياران أحلاهما مر، الأول له تبعات مباشرة على وضع الدولة الروسية في ضوء الخسائر البشرية المحتملة والتكلفة الاقتصادية الباهظة على اقتصاد ينوء تحت ضغط العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط والغاز، المصدر الرئيس لمواردها المالية، والثاني ينطوي على نتائج سياسية شديدة السلبية على النظام، ضرب هيبة النظام الذي وعد بفرض روسيا قطبا ثانيا في النظام الدولي، والدولة الروسية التي ستواجه العزلة والتراجع في مكانتها الإقليمية والدولية.  

بدأت مشكلة روسيا عند رفض الدول الفاعلة في الصراع السوري إعطاء شرعية لتدخلها سواء عن طريق رفض التعاون معها او عبر المواقف والبيانات التي صدرت(بيان الدول السبع)، والبدء بارسال اسلحة متطورة الى كتائب المعارضة المسلحة، وادخلها صمود الكتائب المعارضة في عنق زجاجة حاد، فقد استطاعت احتواء الهجوم البري الذي اطلقه جيش النظام وحلفاؤه، والحقوا به خسائر فادحة، خاصة في سلاح الدبابات التي اصطادوها بصواريخ "تاو" التي وصلت مؤخرا.

لقد أصطدم التكتيك الروسي "تقديم اسناد جوي لهجوم بري ينفذه جيش النظام وحلفاؤه" بعقبات كثيرة أولها عدم فعالية القصف الجوي ضد قوات غير نظامية تنتشر بصورة كيفية، وثانيها ضعف قوات النظام التي انهكها التعب في حرب استمرت لأربع سنوات ونيف، وزاد في مأزقها نجاح كتائب المعارضة السورية في امتصاص القصف الجوي والرد بضربات موجعة لجيش النظام وحلفائه قطعت فيه الطريق على "القيصر" في تحقيق نتائج سريعة والنجاح في تعزيز موقع النظام والضغط على الغرب لقبول المقايضة، وحققت نصرا تكتيكيا في ضوء طبيعة الصراعات غير المتوازية(جيش ضد قوات مقاومة) والقاعدة الحاكمة له:"ينهزم الجيش عندما لا ينتصر، وتنتصر المقاومة عندما لا تنهزم". وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار موقف بوتين النفسي الرافض للتراجع او القبول بالهزيمة سيقودنا الى توقع انخراط روسي اكبر في الصراع في سوريا وعليها يفتح الباب لاحتمالات التورط في حرب طويلة الامد في ضوء اعلان دول داعمة للمعارضة انها لن تسمح بهزيمتها وانها ستقدم لها اسلحة متطورة مع عدم استبعاد تزويدها بصواريخ أرض جو، اعلان واشنطن والرياض بعد زيارة كيري الى الاخيرة، وتصريح وزير خارجية قطر عن الاستعداد لتدخل عسكري تركي سعودي قطري في سوريا.  

لم تجد روسيا في مواجهة عدم تحقيق نتائج حاسمة في الهجوم البري الموازي لقصفها إلا زيادة عدد الطائرات المشاركة في القصف، ارتفع العدد إلى 100 طائرة، بالإضافة إلى المروحيات الهجومية، ورفع وتيرته بالقصف ليلا ونهارا، على أمل تغيير الصورة بما يسمح بتحقيق مطالبها بخصوص الحل السياسي على خلفية القاعدة الذهبية للتفاوض: "يحقق المفاوض على طاولة المفاوضات ما يعادل وضعه على ارض المعركة". وقد أعترف الرئيس الروسي بوتين في كلمته يوم 22 الجاري أمام مؤتمر"فالداي"الذي عقد في مدينة"سوتشي" الروسية، وشارك فيه محللون وخبراء دوليون بضالة المكاسب التي تحققت بقوله:"لم يتمكن شركاؤنا من إنجاز أي عمل فعّال هناك، بخلاف قواتنا التي حققت بالفعل بعض النتائج الملموسة".

لذا ذهب لافروف الى فيينا حاملاً اقتراحات لحل سياسي للصراع في سوريا وعليها، وبدأ بمغازلة الجيش السوري الحر عبر ابداء الاستعداد لتقديم دعم عسكري في مواجهة "داعش"، في محاولة واضحة لاستثمار الزخم العسكري الروسي في المساومة، والعمل على اعادة صياغة الاصطفافات العسكرية قبل ان تحصل انتكاسة عسكرية للنظام وحلفائه بدت مؤشراتها في الظهور، وزاد في وتيرة تحركاته الدبلوماسية لاستكشاف السقوف السياسية للدول للمعارضة وحلفائها (اتصل بوتين بالملك سلمان مرتين خلال خمسة ايام) عله يخفف من حدة رفضها للاقتراحات الروسية، وخاصة حول الفترة الزمنية للمرحلة الانتقالية التي يبقى فيها رأس النظام في السلطة، وينجح في انهاء تدخله في مدة قصيرة.

وقد زادت عودة رأس النظام  الى الحديث عن القضاء على الارهاب قبل الحديث عن حل سياسي في تعقيد المأزق الروسي، ووضعه أمام تحديات مركبة من موقف المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، الى موقف الدول الاقليمية المعارضة لبقاء رأس النظام في السلطة وترشحه في انتخابات رئاسية مقترحه، واعلان مصر، على لسان وزير خارجيتها سامح شكري، ان المملكة السعودية تمثل الاجماع العربي خلال اجتماع فيينا لحل الازمة السورية، الذي اجهض محاولة لافروف للالتفاف على الموقف العربي عبر الدعوة لاشراك مصر والاردن وايران في الاجتماع القادم، وموقف ايران التي ماتزال تفكر بمنطق سحق المعارضة كما فعلت هي عام 2009، والنظام الذي مازال يعيش على حلم "الابد" الذي روج له طوال عقود، حتى دول حليفة لها من دول الاتحاد السوفياتي السابق، والصين كذلك، نأت بنفسها عن تأييدها، فروسيا التي تعاني من تناقض في بنيتها بين قدراتها العسكرية والاقتصادية، حيث مازال الوصف الذي أطلق على الاتحاد السوفياتي:عملاق بساقين واحدة جبارة(العسكرية) وأخرى هزيلة(الاقتصادية) ينطبق عليها، ما يجعل تفكيرها بالعودة الى لعب دور قوة ثانية في النظام الدولي، بالتساوي مع الولايات المتحدة أو الى جوارها، نوعا من حلم يقظة للترابط العضوي بين القوتين العسكرية والاقتصادية في قيام القوة العظمى، كان المؤرخ الأمريكي بول كنيدي قد استنتج من دراسة تجارب القوى العظمى التي قامت خلال خمسمائة سنة قانونا حاكما لقيام وسقوط القوى العظمى مفاده: اقتصاد قوي يمول جيشا ينتشر في الخارج، وتراجع القدرة المالية للصرف على الانتشار العسكرية في الخارج يضع القوة العظمى على طريق السقوط، فاستمرار الصراع الروسي الغربي لبعض الوقت، ومشاركة القوات الروسية في القتال في أوكرانيا وسوريا، مع احتمال انخراطها في القتال في العراق، سيقود إلى تآكل الكتلة النقدية الروسية المتبقية ويدفعها إلى حافة الإفلاس. وهذا أثار هواجس ومخاوف المواطنين وعمّق الهوة بينهم وبين السلطة، وهي حالة لا تنسجم مع أدبيات النظام الشعبوي، وبطله الأوحد فلاديمير بوتين، الذي يعتمد على إثارة حماسة المواطنين وتعصبهم القومي لحشدهم خلفه، سعى إلى تحصين نفسه من غضبة الشعب بـ "تسويق" توصيفه للوضع الذي آل إليه الروس باعتباره جزءا من مؤامرة غربية تُحاك ضدهم.

ليس أمام موسكو الا خيار عن النزول عن الشجرة والقبول بمطالب المعارضة السورية والدول الحليفة لها بتطبيق بيان جنيف واحد والبحث عن حلول مقبولة للبنود المختلف عليها، كخيار وحيد بديل عن الغوص في مستنقع غير معروف النتائج.

المصدر: المدن الكاتب: علي العبدالله
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ