سجن صيدنايا: نحن أيضاً من ضحاياه
سجن صيدنايا: نحن أيضاً من ضحاياه
● مقالات رأي ٢١ فبراير ٢٠١٧

سجن صيدنايا: نحن أيضاً من ضحاياه

خبرٌ يطرد الآخر. مصيبة تطرد الأخرى. قتلى يصرفون قتلى آخرين. مأساةٌ تحلّ مكان مصيبة. حربٌ تُنسي أخرى، وآلاف من الضحايا يمحون ذكرى ضحايا سابقين... هكذا تمرّ علينا مركباتُ قطار الأنباء بسرعة الضوء، تدوس مشاعرنا وأخلاقياتنا، وتجعلنا، لتلاحقها وتكرارها وتصاعدها، مجرّد مشاهدين نائين عمّا يجري من حولنا، ويكاد لا ينطبع على حدقات عيوننا أكثر من ثوانٍ معدودة.

وإلا فما معنى أن يمرّ تقريرُ منظمة العفو الدولية (أمنستي) أخيراً عن سجن صيدنايا، وما يجري فيه من تعذيب واغتصاب وتجويع وإعدامات، وهو ما استدعى تسميته "المسلخ البشريّ"، حيث تم القضاء على 13 ألف ضحية، كما يمرّ أيُّ خبر آخر، فلا يُشعل وسائلَ الاتصال الاجتماعية بقدر ما يشعلها مثلا نبأُ وفاة ممثل، أو نشرُ مراسلات قصة حبّ من طرف واحد بين كاتبةٍ وشاعر، أو فضيحة تتعلق بالحياة الشخصية لنجمٍ ما...؟

وسائل الإعلام نفسها، من صحف ومجلات ووكالات أنباء وإذاعات وتلفزيونات، تعاطت مع الخبر وكأنه مجرّد سبق صحفي أتى بإثباتٍ جديد لما كان يُحدس به من قبل، في حين أنه بات مؤكّدا ومعلوما من الجميع ومنذ فترة، كلُّ ما يجري هناك ويتجاوز بوحشيته الحدودَ القصوى للفظاعة والإجرام.

أما سبق أن قال لنا ذلك ملفُ "سيزار" أو "قيصر" بصوره التي هُرّبت بالآلاف (أكثر من 50 ألف صورة) وفيها تظهر بوضوح جثثُ 11 ألف سجين ممن قضوا جوعا وتعذيبا وقتلا في سجون مظلمةٍ متعفنة، ما بين 2011 و 2013؟ ألم نرهم أولئك الموتى، النساء، الشيوخ، الشبّان والصبية، الممدّدين أرضا عراة، بملامح متورّمة مشوّهة ودماء متخثرة، داخل أكفانٍ من النايلون، قبل أن يرسلوا إلى مصير آخر مجهول؟ أما كنا قد رأينا وبكينا ضحايا الكيماوي في الغوطة الشرقية، وأكثرهم من الأطفال الذين مُددوا جنبا إلى جنب، مغمضي العيون، متبسّمين كملائكة صغيرة هبطت من السماء؟ ألم تهزّنا صورة "الطفل الغريق" التي أصبحت أيقونة البؤس السوري؟

قال لنا تقريرُ منظمة العفو الدولية، بالتفصيل المملّ، ومن خلال الشهادات الحيّة لسجّانين قدماء ولمساجين نجوا وضباط أمن تفننوا بممارسة أنواع التعذيب، ما جرى ويجري في سجن صيدنايا، للمدنيين والعسكريين من معارضي النظام، أو ممن يتّهمهم النظام بمعارضته جزافا. روى كل هؤلاء كيفية تعذيبهم، إذلالهم، ضربهم، تجويعهم، اغتصابهم، تركهم يهترئون بجراحهم ودمائهم وبرازهم، في داخلٍ معتم، قذر، يتضاءل حجمُ الجحيم نفسُه أمامه. قيل كيف كانوا يساقون إلى المشانق من دون محاكماتٍ حقيقية، وكيف كانوا يتعلّقون بالصبية خفاف الوزن، كي تطقّ رقابهم لأنهم كانوا أخفّ من أن يخنقهم حبل المشنقة. حُكي الكثير. وحُكي كل شيء. ومن لم يعرف ليس له إلا أن يفتح إنترنت، وسيقع على التقرير كاملا، مترجما إلى عدة لغات.

حسنا، ثم ماذا؟ لا شيء. لا مبادرة عملية تهدف إلى محاسبة المسؤولين عن كل تلك الفظاعات المرتكبة بحق أبرياء، لا تجمعات ولا مسيرات ولا مظاهرات اعتراض، وإنما الاستمرار في سماع أخبار القصف، وإلقاء البراميل المتفجرة، والحصار والقتل والتهجير والإذلال والتجويع والتلويح ببعبع الإرهاب. وحشية ما بعدها وحشية، وقد حوّلتنا، نحن الذين في موقع الشاهِد، إلى شركاء في الجريمة. أجل، على الرغم من حزننا واستيائنا واستنكارنا ومن بلوغ بعضنا حدّ البكاء، ورؤية آخرين كوابيس متعبة أو مخيفة لأيام، نحن شهود على الجريمة، وبالتالي شركاء فيها. فنحن أولا سوف ننسى بعد قليل، ونحن ثانيا قد عوّدنا أرواحَنا، مأساة إثر مأساة، وحربًا بعد حرب، على صعود سلالم الفظاعات، بثبات وتصميم، ونحن ثالثا استبدلنا ضمائرنا بشيء من البلاستيك، بارد ويمكن تطويعه، شرط ألا يُكسر أو يعرَّض للنار. فرأفةً بضمائركم، أيها الإخوة، علّها تبقى مخدّرة، كي لا تقضي على تحالفكم مع الشيطان.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: نجوى بركات
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ