سوريا: العودة إلى الألعاب الاستعمارية القديمة
سوريا: العودة إلى الألعاب الاستعمارية القديمة
● مقالات رأي ٢١ نوفمبر ٢٠١٤

سوريا: العودة إلى الألعاب الاستعمارية القديمة

في وقت ما من العام الماضي ربما، اكتشف أحد الذين يقفون على رأس قيادة نظام الأسد في دمشق، دليلا استعماريا كتبه الفرنسيون ويدور حول كيفية السيطرة على سوريا. ويعكس ذلك الدليل السياسة العدوانية التي انتهجها الرئيس الفرنسي السابق ألكسندر ميلران، إذ يوصي الدليل بتطبيق سلسلة من الحيل تهدف في مجموعها إلى السيطرة على الدولة المتكونة حديثا ضد رغبات غالبية شعبها.
وقد صممت الأساليب المذكورة لتتناسب مع «بلقنة» سوريا الكبرى واستدعاء سياسة «فرق تسد» بناء على وعود بإقامة عدة دويلات تحكمها الأقليات. ومن واقع الحقيقة القائلة بأن الرئيس ميلران كان اشتراكيا وكان من المفترض أن تكون الدولة الفرنسية ذات طابع علماني، فلا كان هو اشتراكيا محضا ولا هي علمانية صرفة.
من أبرز وصايا الدليل الاستعماري المذكور، هناك اثنتان مهمتان؛ أولاهما تركيز الإدارة الاستعمارية مواردها على السيطرة على ما وصفته بـla Syrie utile أو «سوريا المفيدة». ويقصي ذلك المفهوم أكثر من نصف أراضي سوريا، التي تتألف من صحراء قليلة السكان. وبدلا من ذلك، يسلط الضوء على قيمة الشريط الساحلي ما بين دمشق ومدينة حلب على ساحل البحر المتوسط، وهي أكثر مدن البلاد اكتظاظا بالسكان، وطريقين رئيسيين؛ أحدهما يربط سوريا بلبنان في الجنوب، والآخر يربطها بتركيا في الشمال الشرقي. وعبر مراحل النضال الوطني السوري من أجل الاستقلال، تابع الفرنسيون تلك الوصفة بحماس عجيب.
واليوم، فإن ذلك هو ما يحاول نظام الأسد القيام به بالضبط.. فقد انسحبت قوات النظام من غالبية الأراضي لأجل تركيز الموارد المتاحة على «سوريا المفيدة». أما الفراغ الذي خلفه ذلك الانسحاب، فأدى إلى ظهور عشرات الجماعات المسلحة في «أرخبيل الجهاد» الممتد من الجنوب الغربي وحتى الشمال الشرقي. ووفقا لأفضل التقديرات، فإن نظام الأسد يسيطر حاليا على نحو 40 في المائة من التراب الوطني. ولا تزال تقديرات عدد السكان القاطنين في تلك المساحة من البلاد محل شكوك، حيث تتراوح التقديرات بين 35 في المائة و60 في المائة من إجمالي عدد السكان. ويعود ذلك التناقض في جزء منه إلى حقيقة أن كثيرا من سكان سوريا مسجلون بوصفهم لاجئين لدى لبنان، والأردن.. وإلى حد ما، قضى بعض السكان جزءا من أوقاتهم في تركيا على مقربة من منازلهم السابقة، محدثين ما يوصف بـ«حركة المد والجزر البشرية» التي تشكل جزءا من التناقض ذاته.
وتضمنت النصائح الاستعمارية الفرنسية أيضا، وربما بمزيد من الأهمية، حيلة هي: تجنيد أفراد في الشرطة والجيش من بين الأقليات الدينية والعرقية. ولأجل تحقيق تلك الغاية، طُبقت مجموعة أخرى من الحيل.
فمن خلال التباهي بـ«هوية الجمهورية العلمانية»، قولبت فرنسا نفسها في دور «حامي حمى المسيحيين في بلاد الشام».
ومولت الحكومة الفرنسية جهود إرسال عشرات الأقليات المسيحية إلى الداخل السوري، وسددت تكاليف ترميم كنائسهم هناك، وشجعت نشر التعاليم المسيحية في كثير من المدارس، وهو الأمر المحظور في فرنسا ذاتها.
ثم توددت فرنسا إلى «الطائفة النصيرية»، التي تغير اسمها لاحقا ليكون «الطائفة العلوية»، بوعود بإقامة دويلة صغيرة على طول الشريط الساحلي للبحر الأبيض المتوسط. وابتلعت الطائفة النصيرية تلك الحيلة الفرنسية وصارت من أشد المؤيدين للوجود وللحكم الاستعماري الفرنسي في البلاد.
وتوددت فرنسا كذلك إلى الأكراد، وهي الأقلية العرقية الرئيسية في الشمال الشرقي من البلاد، وذلك عن طريق تأسيس معهد لدراسات ثقافتهم العرقية، والسماح بحرية التحرك عبر الحدود مع الدولة التركية الناشئة حديثا، ومع العراق كذلك. أما بالنسبة لبقية الأقليات، ومن بينهم الدروز والتركمان، فقد استمالتهم فرنسا أيضا بمجموعة متنوعة من الحيل، ومن بينها دعوات وجهت لزعماء تلك الأقليات لزيارة باريس والسماح لأبنائهم بالدراسة في المدارس الفرنسية الراقية.
بُذلت كل تلك الجهود تحت مظلة ثيمة رئيسية واحدة، ألا وهي التحذير الفرنسي من أن عدم التعاون مع الحكم الاستعماري للبلاد سيؤدي إلى إبادة الأقليات السورية على يد الأغلبية السنيّة المسلمة. وللتيقن من وصول الرسالة للقاصي والداني، قام الفرنسيون برشوة عدد من قادة المجتمعات المحلية. وتظاهر الشباب في تلك الأقليات بالتطوع لخدمة فرنسا.. أما من الناحية العملية، رغم ذلك، فقد تعرض كثيرون من أولئك الشبان للاختطاف على يد عصابات التجنيد وأجبروا على الالتحاق بالخدمة في الجيش والشرطة الاستعمارية.
يوثق السيد دانيال نيب في كتابه الرائع «سوريا تحت الانتداب الفرنسي»، الذي نُشر في عام 2012، لحالة العنف التي استخدمها الاستعماريون الفرنسيون للاحتفاظ بسيطرتهم على البلاد بمعاونة المجندين من الأقليات.
واليوم، يستخدم نظام الأسد حيلا مماثلة من خلال محاولة تعزيز «تحالف الأقليات» عن طريق استخدام البعبع السني المسمى «داعش»، أو «ISIS» اختصارا باللغة الإنجليزية. ومن السهولة بمكان تناسي أن «داعش» قتل بالفعل كثيرين من المسلمين السنّة ودمر كثيرا من البلدات والقرى السنية. وبالتالي، فإننا نرى مشهدا غريبا للغاية يتشارك فيه تنظيم «داعش» مع نظام بشار الأسد في رقصة الموت الثنائية.
أخبرتني مصادر من الأقليات المسيحية والدرزية والتركمانية أن عصابات التجنيد، التي تضم فيما بينها أحيانا عناصر من مقاتلي «حزب الله» اللبناني ومعلميهم من إيران، تحاول إجبار أو إغراء بعض الشباب على الالتحاق بآلة القمع الأسدية نصف المتهالكة والمدعومة من موسكو وطهران.
ليس استخدام جنود الأقليات في خدمة الحكم الإمبريالي بالشيء الجديد؛ فلقد كان جيش الملك الفارسي زركسيس الذي اجتاح أثينا قديما يتألف في معظمه من جنود الأقليات من مختلف أصقاع الإمبراطورية الفارسية. وفي روما، استخدم الملك «سكيبيو الأفريقي» جنودا من هيسبانيا وأفريقيا في حملته الناجحة ضد القرطاجيين تحت قيادة هانيبال. ومنذ عصر الإمبراطور أغسطس فصاعدا تكوّنت أكثرية الفيالق الرومانية من جنود الأقليات من القارات الثلاث.
أما في الآونة الأخيرة، فاعتمدت الإمبراطورية البريطانية في الهند بشكل أساسي على المجندين من تلك الأقليات مثل المسلمين والسيخ، ناهيك بأقلية «الغوركا» النيبالية (المعروفة فارسيا باسم: «الباحثون عن المقابر»)!. وقد أسست فرنسا الفيلق الأجنبي لتجنيد الأقليات من جميع أنحاء العالم. وقد بنى الملك البلجيكي ليوبولد لنفسه إمبراطورية في أفريقيا من خلال جيش من المرتزقة جنده من أكثر من 30 جنسية مختلفة.
وأحد الدروس المستفادة من التاريخ أنه حتى أفضل الجيوش تدريبا وتنظيما إذا تألف في معظمه من الأقليات، فلا يمكنه الحيلولة دون زوال نظام مفروض ضد رغبات الأغلبية. ورغم تمتعهم بوفرة في العتاد والسلاح، فإن البريطانيين أُجبروا في نهاية المطاف على التخلي عن إمبراطوريتهم الهندية. وفشل الفرنسيون في ترويض سوريا، ومن ثم الاحتفاظ بقبضتهم على الجزائر، على الرغم من التجنيد واسع النطاق للمقاتلين الجزائريين الموالين لهم.
من غير المتوقع لنظام الأسد ومن يدعمونه في طهران وموسكو، أن يخرج أداؤهم بصورة أفضل. ومع ذلك، ومن خلال تلك اللعبة الخبيثة من وضع مختلف المجتمعات والأقليات في مواجهة بعضهم بعضا، يمكنهم أن يخرجوا بقالب جديد من الشكوك والكراهية المتبادلة التي سوف تجد سوريا المستقبلية، المحررة كما نأمل جميعا، صعوبة شديدة في تجاهلها في المراحل الأولى من النهضة الوطنية الجديدة على أدنى تقدير.
ليست الحرب في سوريا بين الأغلبية والأقلية من سكان البلاد؛ بل إنها حرب بين الشعب السوري بأسره، الذي يرغب في الحياة بحرية وكرامة، ضد نظام الأقلية الحاكمة الذي يزعم أن له توجهات اشتراكية، وعلمانية عربية، ومع ذلك، فهو يلعب لعبة استعمارية مثالية بالنيابة عن سادته في الخارج.

المصدر: الشرق الأوسط الكاتب: أمير طاهري
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ