سورية في صمت أميركي
سورية في صمت أميركي
● مقالات رأي ٥ يوليو ٢٠١٦

سورية في صمت أميركي

علينا، نحن الصحفيين السوريين، أن نلتزم الصمت للأشهر الستة المقبلة على الأقل، فنحن اعتدنا أن نملأ الصحافة العربية بهمومنا وآلامنا، وننقل تفاصيل طاحونة الموت الدائرة في بلادنا، ونعلق على الأحداث السياسية، والنوافذ الضيقة التي تنفتح لتخلق الأمل بإمكانية الوصول إلى حلٍّ سياسي، وغالباً ما نلتقط جملةً وردت على لسان مسؤول أميركي، أو روسي، أو تصريحٍ يتبعه نشاط للمبعوث الدولي، أو لقاء جانبي أو عارض بين مسؤول إيراني ومسؤول تركي يحضران معاً اجتماعاً إقليمياً أو دولياً ما، ونبني على هذ الالتقاط توقعاتٍ وتحليلاتٍ، ونجدّد آمالاً غير موجودة، ونتمسّك بإشارةٍ ما وردت هنا وهناك.

في الأيام الأخيرة، هبط منسوب الاهتمام بسورية وبحربها الطاحنة، ولم يعد أحدٌ يلتقي بأحد لاستئناف مفاوضات الحل السياسي، ولم يعد يطلق التصريحات لضرورة الوصول إلى هذا الحل، لم يعد أحد يناكف أحداً، ولا أحد يوافق أحداً، فهل توقف الموت؟ بالتأكيد لا، وهل توقفت الطائرات عن إلقاء براميلها، والمدافع عن إطلاق قذائفها؟ بالتأكيد لا، فما الذي جرى؟ ولماذا هذا التلاشي في صورة سورية لدى العالم، خصوصاً لدى وسائل الإعلام؟

لا تفسير لذلك سوى انشغال أميركا بنفسها وبانتخاباتها المقبلة، وبالتالي، توقف وتيرة اللقاءات الدولية أو تراجعها، ونقص الاهتمام بالمبادرات والأفكار السياسية الجديدة، فحين تأخذ أميركا إجازة، يتراخى كل من تبقى في المشهد السياسي العالمي، فهي تشبه مديراً لمصنع هو العالم، وحين يغيب المدير في إجازته السنوية، يتراخى جميع الموظفين، أو يعملون بالحد الأدنى، وبأقل قدرٍ من الوقت، يغيب بعضهم، وتتوقف عجلة الإنتاج في المصنع، ربما يبقى أحد الموظفين، بكامل جاهزيته ونشاطه، ليستغل غياب المدير، لينفذ أمراً يخطط له منذ العام الماضي. وقد يكون هذا الأمر تخريب موجودات الشركة، أو اختلاس بعض منها، أو سرقة وثائق منها لابتزازها فيما بعد.

هذا ما يحصل في سورية اليوم، وربما سيستمر لأشهر مقبلة، بالمدير الأميركي لديه ما يشغله، ولن يصيبنا منه إلا ما يخدم انتخاباته، بغض النظر عن أي اعتباراتٍ تخصّنا، وسيستغل الموظف الفاسد الذي يمثله هنا النظام السوري وحلفاؤه هذه الفترة، ويفعلوا ما كانوا يتردّدون في فعله، ولنا أن نتخيّل أن الفترة المقبلة ستشهد جولةً من الممنوعات، لأنهم يعتقدون أنها ستمر من دون عقاب، ولن ينتبه إليها أحد، وسيتوقف العالم عن إطلاق المبادرات، وتسخين المشهد السياسي، وسنتوقف نحن عن إيجاد الموضوعات التي تستحق أن نكتب عنها، أو نعلق عليها مصيبين أو مخطئين، وربما علينا أن ندخل في الصمت الانتخابي.

هي مفارقةٌ بلا شك، أن تدخل مأساة إنسانية كبرى، كالحرب السورية، في الصمت الانتخابي الأميركي. ولكن المفارقة الأكبر أن فترة الصخب التي سبقت هذا الصمت لم يكن فيها سوى الضجيج، والكثير الكثير من الجعجعة من دون أي طحين، فلا جولة مفاوضات نجحت، ولا لقاءات الدول استطاعت أن تضع حداً لموت الملايين من السوريين وتهجيرهم، ولا قرارات مجلس الأمن وجدت من ينفذها، والجرائم التي تحصل منذ خمس سنوات تستمر من دون أن تكترث لشيء، ويضاف إليها مجرمون جدد في كل مرة، وبدلاً من موت السوريين على يد النظام، صار الموت على يدي النظام و"داعش"، وعلى أيدي التنظيمات المرتبطة بالقاعدة، وعلى أيدي الميليشيات العراقية والإيرانية واللبنانية والافغانية، وفوق ذلك كله، بقصف الطائرات الروسية والأميركية على السواء.

ربما علينا أن نلجأ في الأيام المقبلة إلى الكتابة عن موضوعاتٍ أخرى، ونؤجل الحديث عن سورية، وتتبع مأساة شعبها، إلى ما بعد استلام الرئيس الأميركي الجديد (أو الرئيسة) لمهامه، ثم انتهاء فترة انشغاله بترتيب بيته الداخلي، لعله، بعد ذلك، يبدي اهتماماً ما، فينتقل هذا الاهتمام إلى المنظمة الدولية والدول الأخرى، فنجد نافذةً جديدةً للأمل نبشر بها، أو نحبط المستبشرين بها، وريثما يحين ذلك، لا حل أمامنا سوى أن نستحضر التاريخ، ونكتب عنه ونحلله، ونأخذ منه الدروس.
والتاريخ الذي أقصده ليس تاريخ الدولة الأموية، ولا حروب المماليك، ولا وقائع الحرب العالمية الأولى، بل التاريخ القريب، والقريب جداً، فخلال السنوات الخمس الماضية قدم لنا كل يوم من الأحداث والمواقف والحكايات ما يكفينا عقوداً، وزودنا السوريون بدمائهم وأرواحهم بذخيرةٍ لا تنضب من الحكايات والمشاعر والأفكار، فلتنشغل أميركا بنفسها ما شاءت.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: علا عباس
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ