طائر الفينيق ينهض من جديد
طائر الفينيق ينهض من جديد
● مقالات رأي ١١ أغسطس ٢٠١٦

طائر الفينيق ينهض من جديد

منذ أقل من عشرة أيام  وثوار سورية ينسجون سجادة النصر أو ملحمته الكبرى في حلب.. ومنذ بداية تلك الأيام سارع جيش من المحللين وقارئي الفنجان للإدلاء بإبداعاتهم التحليلية عبر  الوسائل الإعلامية التي لا تعد ولا تحصى..

والمدهش أنه كلما تمعلم المحللون وقدموا للثوار نصائحهم الذهبية.!!.. يفاجئهم الثوار بتكتيكاتهم التي لا تخطر على بال وبانتصاراتهم المذهلة.. وهكذا تختلط الأوراق في أذهان أولئك المحللين، فيسارعون إلى إعادة ترتيب ما تبعثر من أوراق، ففي كل يوم يقدم ثوار جيش الفتح مفاجآت مذهلة وانتصارات أكثر إذهالاً.. حتى أن الدبلوماسية الأميركية العاهرة، اقصد الماهرة في صياغة الدجل والكذب والتسويف، وبعبارات ثعلبية ماكرة تجعل أي معنّي بالأمر يمنّي النفس بالآمال العريضة.. حتى أن هذه الدبلوماسية الأميركية قد دوختها انتصارات الثوار في حلب الشهباء، حتى اضطرتها تلك الانتصارات لأن تصوغ موقفها بعبارة مضحكة وثعلبية في الوقت نفسه، حيث قالت: الوضع في حلب غامض ونحن لا يمكننا التعليق على ذلك " .. ثم تأتي بعده المتحدثة بتصريح أكثر ضحاكاً وثعلبية، حين قالت: الموقف في حلب مائع، وعلى كافة الأطراف السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى  المناطق المحاصرة.. ".. 

أمام هذا الواقع الذي عاينتُه بدقة، ماذا يمكن لواحد مثلي أن يقدم في هذه المناسبة من الانتصارات العظيمة، والتي تحدثت عنها آلاف المواقع الإعلامية.!!؟..   

حاولت أن أكتفي بالمتابعة، فأستمع وأشاهد وأراقب وأعيش ساعات من الفرح العظيم، ولكن قلمي كان يلكزني دائماً ليحرّضني على الكتابة، فما يحدث في حلب من معارك طاحنة وانتصارات متسارعة، سوف يقف التاريخ أمامه مطولاً، ولم يكن الثوار مخطئين حينما أطلقوا على هذه المعركة: " ملحمة حلب الكبرى "..

حسناً.. من أين تريد أن تبدأ أيها القلم.!!؟.. فهناك رزمة من الأفكار التي تتزاحم في الذهن وحتى في القلب، وكل واحدة منها تطلب موقع الصدارة..

ولكي أنظّم الدور بين تلك الأفكار.!!.. سأعتمد التسلسل الزمني، من هنا أعود إلى ما قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، فما قبل تلك الأيام وما بعدها كنت أتوجه إلى حلب بين سنة وأخرى، إما لإحياء أمسية شعرية أو للاشتراك بندوة أدبية..

وأتذكر أن أم العيال كانت دائماً تطلب مني، وأكاد أقول تأمرني بإحضار كمية وافرة من الزعتر الحلبي وصابون الغار..

في الأحداث المأساوية التي مرت بها حلب صابرة محتسبة، لاسيما بعد أن شرفنا.!!. الدب الروسي بزيارته الثقيلة الدائمة في سورية، وهو مدجج بالحقد والإجرام لتدمير هذا الشعب العظيم، ولاسيما حلب الثقافة والتاريخ.. كل ذلك إكراماً لروح الأسد الكبير، وتثبيتاً لدعائم الأسد الصغير..

وقد ظن الدب الروسي أنه خلال بطشة واحدة أو اثنتين أو ثلاث، سوف يتخلص من الشعب السوري، ويقف في حلبة المصارعة ليرفع يد الأسد إلى الأعلى إعلاناً بالنصر على الشعب السوري بالضربة القاضية.. 

ومضت الأيام والشهور، واستمر البطش والقتل والتدمير حتى كادت، وأقول كادت، قاذفاته وصواريخه تكل وتمل، والشعب السوري ظل صابراً محتسباً صامداً..

وفي الآونة الأخيرة تم التركيز على حلب بقصد إسقاطها وعودتها إلى " حضن الوطن.!!..".. وساهم في ذلك حضور عشرات الآلاف من الفيلة الفارسية، ونالت حلب من القتل والتدمير ما لا عين رات ولا أذن سمعت، حتى بدأت كفة الأحداث تميل لغير صالح الثوار، وأخذ الحديث يدور في المسالك العالمية والعربية المتعاطفة مع الدب الروسي عن اقتراب سقوط حلب بيد سلطة الأسد نظرياً، وبيد سلطة القيصر وملالي الفرس عملياً، ومما زاد من قوة هذا الاحتمال جمود حركة الثوار في فاعلياتهم القتالية..

كان اليأس قد تسرب إلى نفوس الشعب السوري، وأنا واحد منهم، لكنني في لحظات من الوميض التفاؤلي، تذكرت فيها الزعتر الحلبي وصابون الغار والقدود الحلبية والحارات القديمة التي تمتد جذورها الحضارية إلى عشرات الآلاف من السنين.. كما كنت أتذكر قول الشاعر:

كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها

قلم يضرْها، وأوهى قرنَه الوعلُ

وقالت نفسي لنفسي، لا بد أن تنتصر نبتة الزعتر اللدنة الطرية وشجرة الغار التي هي رمز انتصارات الشعوب على أشجار الغرقد والعوسج بكل ما تحمله هذه الشجيرات الحاقدة من شراسة وشوك..  

ومن غامض علم الغيب، كما يقال، ينهض الفينيق من رماده.. من جنوب حلب، فقد باغت الثوار الفيلة الفارسية ومرغوا انوفها بالأوحال، وأرسلوا منها بالتوابيت أكثر من مائة وخمسين جثة إلى بلاد الملالي لتدفن هناك إلى جانب مقام أبي لؤلؤة قدس الله سره..

ويومها كتبت مقالة بعنوان" ملحمة خان طومان واستحالة حلب " أكدت فيها أن حلب يستحيل أن تسقط، لا سيما إذا اتحدث فصائل الثوار او معظمها على الأقل..

ولكن الدب الروسي الذي وعد إمبراطوريته القيصرية بالنصر في بداية عام 2016، لم ييأس وصمم على إخضاع حلب، حتى ولو تحولت إلى تل من ركام.. ركز بطيرانه على حلب المحررة، وعلى طريق الكاستيلو الممر الوحيد الذي يربطها مع الخارج، حتى استطاعت سلطة الأسد والميليشيا الإيرانية وحزب الله وحتى الميليشيا الفلسطينية المتمثلة بلواء القدس من قطع طريق الكاستيلو بشكل نهائي، وهكذا أُطبق الحصار بشكل كامل على أحياء حلب المحررة..

قيصر روسيا أصابته نشوة النصر، فرفع منخاره إلى أعلى، ولف رِجْلاً على رجل بعنجهية وعجرفة، وقال قولته المشهورة: فتحنا ثلاثة ممرات إنسانية لخروج المدنيين من الأحياء المحاصرة، وممراً رابعاً لخروج المسلحين.. ".. لكن الحلبيين المحاصرين أدركوا النية الخبيثة من وراء ذلك، فالمسألة مسألة تفريغ حلب من أهلها، لذلك لم يلتفتوا إلى مثل هذا الاقتراح، لأنهم بالإضافة إلى ذلك، يعلمون علم اليقين أن الآلاف من الخارجين عبر هذه الممرات، إن خرجوا، ستتم إبادتهم برصاص سلطة الأسد أو تحت التعذيب بعد إلقاء القبض عليهم، لذلك فضلوا أن يموتوا جوعاً أو تحت قصف الصواريخ والبراميل على أن يقعوا بين براثن هؤلاء الطغاة..

أكثر المحللين تفاؤلاً وصلوا إلى التأكيد على أن حلب انتهت، وستسقط عاجلاً آو آجلاً.. حتى أن أثنين من " عظماء " المعارضة السياسية ذهبوا نحو هذا الرأي، فقد كتب الأول مقالة، ينهي موضوعها بضرورة عودة المعارضة إلى الحوار والتفاهم مع روسيا، أي الموافقة على ما تقدمه روسيا من فتات الحلول.. أما الثاني، فأنهى أيضاً مقالته التي اعتمد فيها التحليل التاريخي، بالدعوة إلى عدم الاستمرار في التضحيات التي لا طائل من ورائها، وهذا يعني نوعاً من الاستسلام المبطن..

إذن ما دام هذا رأي بعض المعارضين الكبار، فقد انتهى الأمر، وسوف تستسلم حلب إلى الدب الروسي والفيل الفارسي وشبيحة الفئة الهامشية التي رفعت شعار: إما الأسد أو نحرق البلد ".. لكنني في لحظة من التوهج الصوفي، كما يقال، تذكرت الزعتر الحلبي وأوراق الغار وطائر الفينيق..

ومرة أخرى أقول: من غامض علم الغيب ينهض هذا الطائر ــ الأمل الذي يرمز إلى انتصار الشعوب، وهذه المرة ينهض ويأتي من الغرب الحلبي، ويتقدم ليكتسح الفيلة الفارسية ويقضي على أحلام الدب الروسي..

وحكاية اكتساح ثوار جيش الفتح لقلاع سلطة الأسد، والهزيمة التي تعرض لها أنصاره من الفرس واتباعهم، وفك الحصار عن أحياء حلب المحررة، أصبحت معروفة لدى الجميع، ولكنها لم تكن معروفة لدى الحسون مفتي الأسد، فقد وصف قوات الأسد في تلك القلاع بأنهم كرجال بدر من صحابة رسول الله.!!!.. كما أنه لا يعرف أن تحرير حلب كاملة بات، حسب التقديرات، مسألة وقت لا أكثر..

فهل ينتصر طائر الفينيق على الدب الروسي والفيل الفارسي وعلى المواقف الأميركية الثعلبية التي لا تريد لحلب أن تتحرر، ويقضي الزعتر والغار على شجر العوسج والغرقد الذي شوه معالم بلادنا الجميلة..!!..

الكاتب: عبد الرحمن عمار
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ