على أبواب المنشية.. نجاة من القصف وقدر جديد
على أبواب المنشية.. نجاة من القصف وقدر جديد
● مقالات رأي ١٥ سبتمبر ٢٠١٧

على أبواب المنشية.. نجاة من القصف وقدر جديد

لكل قصة بداية، وبداية قصتي مع البجعة الروسية القاتلة كانت في السابع عشر من فبراير عام 2017. يومها شنت المقاتلات الحربية الروسية نحو ثلاثين غارة جوية على أحياء درعا البلد، بعد ساعات معدودة من إعلان الروس بداية مؤتمر الأستانة 2 وقف غاراتهم المساندة للنظام السوري في مواجهة معركة أطلقت عليها المعارضة السورية اسم "الموت ولا المذلة" كانت ابتدأتها في الثاني عشر من فبراير لاستعادة حي المنشية أخر معاقل النظام في درعا البلد، بعد أن طرد النظام والمليشيات الأجنبية الموالية له جميع أهله منه محولا إياه لثكنة عسكرية.

شارك الإعلاميون في هذه المعركة الضروس بكاميراتهم رصدا للحقيقة وتوثيقا لفصولها الدموية. ظهيرة ذلك اليوم دخلت درعا لرصد وتوثيق المعارك هناك في ظل جحيم نيران الطائرات الروسية التي أصبحت فيما بعد أحد ضحاياها. كانت ساعات مليئة بالدم والآلام، كنت فيها أشبه بمن يعيش في عالم آخر.. بل كنت كذلك، كل ما أتذكره في تلك اللحظة كيف اخترق الغراب الروسي جدار الصوت، مطلقا أحد صواريخه الفتاكة ..عندها ارتميت على الأرض بجانب السيارة ظنا مني أنني الهدف، إلا أن الصاروخ الروسي كان قد أصاب هدفا على بعد عشرات أمتار مني، (قيل لي فيما بعد أنها سيارة كانت تقل اثنين من مقاتلي المعارضة فقتلهما).

لملمت نفسي ونكت غبار الخوف الذي استملكني.. ومسرعا بسيارتي البيضاء التي تدلل على أني مدني حاولت الوصول إلى مكاني المنشود على أطراف حي المنشية.. ثلاث دقائق أو تزيد قليلا كانت كفيلة باستدارة الطائرة الروسية وملاحقتها لي.. موجهة حممها نحوي. لا زلت أذكر كيف تزامن وقوفي بسيارتي أمام أحد البيوت مع هزة عنيفة حولت كل ما حولي إلى غبار أسود وشرر تتطاير من حولي.. لحظة كأنها عقد من الزمن أدركت فيها بأنني أصبت.. سمعت أصواتا من حولي تركض نحوي قبل أن أغيب عن الوعي. كانت أخر كلمة قلتها ولعلي لم أعي حقيقتها "تصوبت" لأغيب بعدها بعقلي عن واقع ما يجري.


قيل لي بعد ذلك أن ما منع الصاروخ من الوصول إلي مباشرة هو حافة البيت الذي وقفت بجانبه.. قدر الله ان يرتطم الصاروخ به ليتناثر علي ومن حولي، فحال دون تمزيقي وحرقي. شظايا من ذلك الصاروخ اخترقت السيارة فبترت يدي اليمنى بالكامل وهشمت كتفي ووصلت حد الرئة اليمنى فكشطت اللحم عنها حتى بانت، وبعضها اخترق مقعدي من الخلف، فمنعها - رحمة من الله - الدرع الذي كنت أرتديه من الوصول إلى ظهري.

ساعات ما قبل نقلي للأردن للعلاج كانت مخيفة بحسب الأطباء، فضعف إمكانات العلاج والعجز عن إيقاف نزيف الدم، والمشقة في تأمين زمرة دمي، ووعورة الطريق إلى الحد الأردني وطوله، كانت كفيلة بإنهاء حياتي بعيدا عن أهلي، لولا قدر الله الذي كتب لي فصلا جديدا من حياة، سأظل فيها أحد الذين يجمعون تاريخ الثورة السورية ويوثقون منعطفاتها الدموية، بدأ من صرخة الحرية التي قلعت من أجلها أظافر أطفال صغار في درعا، مرورا باحتلال الروس والإيرانيين لسوريا محاولين إرجاعها لحظيرة العبودية، ومقاومة أهلها لهم.


في الأردن وفي غرفة العناية المشددة حيث الأطباء على مدار الساعة من حولي.. وكذا أهلي وطاقم قناة الجزيرة في عمان. يتناوبون على استفاقتي من الغيبوبة بابتسامات عريضة.. سرت في أعماقي أملا لامس ضعف قلبي فقواه، فكان وقوفهم بجنبي كفيلا بطرد شيطان اليأس عني بعد أن كاد يتلبسني. لا أعلم لم تذكرت وقتها الزميل محمود حسين متألما، فكل أحبتي من حولي.. وهو في غيابات الظلم بعيدا عن أهله وأحبته..

 

في محنتي هذه لهج الكثيرون بألسنتهم وأقلامهم تعاطفا معي ضد غاصب ومحتل، فكانت دعواتهم سياجا إلهيا رد عني قدر الموت المحتم لأقف من جديد في مواجهتهم. خرجت من المشفى ولم يتغير علي شيء سوى أنني بدأت أكتب بيساري بدلا من يميني التي سبقتني لرب رحيم كريم. فجل ما فعلته الطائرة الروسية بي هو ما كتبه الله علي.

المصدر: مدونات الجزيرة الكاتب: محمد عبد الحميد السراحين
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ