عن الثّورة التي نريدُ سرقتها
عن الثّورة التي نريدُ سرقتها
● مقالات رأي ١ ديسمبر ٢٠١٤

عن الثّورة التي نريدُ سرقتها

ثمّة رؤيةٌ تحليليَّةٌ حَديثةٌ بدأت تتفشَّى، أخيراً، في جزءٍ من الخطاب السياسي السوري المعارض، مَنبعُ هذه المقاربة أو مصبّها يفضي إلى حقيقيةٍ وصفيَّة، تُخْتَصر بعبارة "الثورة المسروقة"، تفترِضُ المقاربة "وجودَ ثورة ناصعة ونقيَّة ونظيفةً ومدنيَّة وسلميَّة، سرقها إسلاميَّون غامضون مُلتَحون، ولدوا خارج مفاعيل وسياقات هذا الصراع تماماً، وخطفوها وأخرجوها من الحيِّز الصحيح والصّراط المستقيم والمَسار المتَّفق عليه، وعلى الأرجح، تمَّت عمليةُ الخطف الدقيقة الغدَّارةِ بمالٍ خارجيّ سياسي، دخلَ على المُجتمع السوري ذي الإسلام المعتدل السلمي أيضاً". ويتوزع مُصدِّرو خطاب العويل والندب والدفن في ثلاثة مواضع أساسيَّة مُتداخلة في ما بينها:

موضع "الذعر الأقلوي": يبثُّ خطابه تيَّارٌ خائِفٌ من اصطِباغ الثورة السوريَّة، في وجهٍ مُتَّسعِ من أوجهها، بالثقافة المذهبيَّة السنيَّة المحضَة، ومُصطَلح "الثورة المسروقة"، هو خيرُ ترياقٍ للتشويش على هذا القلق الأقلوي إزاءَ هذا الوجه.

موضع "المكانة الاقتصادية": تصيغُ خطابه شريحةٌ اجتماعيَّة من الطوائف المذهبيَّة كافة، يمكن نعتهم بأهل المدن الكبرى، كدمشق وحلب، إذ إنَّهم كانوا جزءاً مُنتفعاً من دورةِ النّظام الاقتصاديَّة النيوليبرالية، ولم يكونوا، بالضرورة، جزءاً من النَّواة الصُّلبة الأمنيَّةِ - العسكريَّة - السياسيَّة الحاكمة. هم يحتجَّون على شكل ممارسة السُّلطة والعُنف، لكنهم راضون بشبكة العلاقات الطبقيَّة الاقتصاديَّة، ويظهر ذلك إثْرَ ارتيابهم الواضح من المنشأ الريفي الواسع للحركة التغييريَّة، هذا التحرُّكُ الريفيّ الذي يستهدفُ، بشكلٍ أو بآخر، مواقعهم الخاصَّة والاستثنائيَّة وغيرِ العادلةِ، ضمن خريطة العجلةِ الاقتصاديَّة النيوليبراليَّة.

موضع "التنوير الثقافي": يُذاع هذا الخطاب من مثقَّفين "تنويريين" يشتهرون بخطاب فوقي مغرور، يحيلُ كُلَّ التغيُّرات الكبرى في المجتمع إلى "العقل!"، هذا الشيء الهلامي الغريب الغامض. ويرى هذا الخطاب الثقافةَ (وهنا هي الإسلام) اللبنة التحتيَّة الأساسيَّة في تشكيل المجتمع، لا وزن يُعْتَبر في التحليل لممارسات السلطة العموميَّة أو توزيع أدوات الإنتاج. ينتهي هذا الخطاب، على الأرجح، إلى حكم قيمة مطلق، لأنَّه ينتج عن نقدٍ مُنفصِلٍ بارد، ينظرُ إلى العلاقات الاجتماعيَّة من فوق، وبتجريد، على حساب النقد المتَّصل الحار الذي يقيمُ وزناً للتفاعلات العلائقيَّة الشائكة الملموسة بين البنى الاجتماعيَّة.

ولا يندرُ أن تختلِطَ المواضِعُ الثّلاثة بين بعضها، فمثلاً يُمكِن أن يتمَفْصل التنوير الثقافي ظاهريَّاً، مع الذعر الأقلوي باطنياً، ويصبح الانتماء الأيديولوجي هنا، ردّة فعل فكريَّة الطابع أهليَّة الدافع.

في المجتمعات الحديثة، عادةً ما يلجمُ الصراع الاجتماعي - الأهلي، وينقُلهُ من الشارع، حيث مَسرحُ العنف الأداتي المادي المباشر، إلى حرم المؤسَّسات الدستوريَّة، حيث العنف الرمزي اللفظي هو وجود السياسة في المجتمع، إذ تهدئ المؤسَّسات السياسيَّة والقنوات الدستوريَّة من التناقضات الاجتماعيَّة الداخليَّة. وجديرٌ بالذكر أنه، أحياناً، حتّى المؤسَّسات الحديثة لا تؤدّي إلى تحقيق السلام الاجتماعي، بل من الممكن أن يفيض الصراع، لينزل إلى منصَّة الشارع، مرّة أخرى، إذا لم تترافق عمليَّة حداثة المؤسَّسات الدستوريَّة مع عملية تحديث المجتمع وتحقيق قيمه الوطنيَّة المشتركة، كما يحصل في لبنان بين فينة وأخرى، على إيقاع الوضع الإقليمي.

" إشكالية داعش أكبر من كل حيثيات الصراع السوري، فهي متعلقة بأزمات بنيويَّة عميقة في الجملة النظرية للفكر الحداثي "

ومنه، فإنَّ ما يميَّز الشأن السوري هو عدم وجود سياسة في المطلق، قبل انطلاق الثورة السورية. لذلك، أهم سمات الحركة التغييريّة السورية، في أثناء هذا الارتجاج التحوُّلي الرهيب، هو الطبيعيَّة والتلقائيَّة والغريزيَّة والعفويَّة، أي ما هو مضادٌّ للسياسة بالضبط. ولأنَّ الوعي البدئي الخام للكتل المحتجَّة هو الإسلام، فمن الطبيعي أن تكون ملامح الخطاب الناشئ عن هذه الكتل المحتجة لخطاب إسلامي، خصوصاً أنَّ أوضاع العنف الرهيبة تؤدّي إلى ازدهار التديُّن السياسي. والتديّن، أصلاً، هو المعادل الأقصى للعنف، والإسلام خير سند ثقافي وتاريخي، ليتحمَّل أعباء هذا الصراع العنيف، لما يحتوي من نصوص مؤسسة متفرقة قادرة على شرح هذه الأوضاع الرهيبة. ومنه، فإنَّ ما تسمى "أسلمة الثورة السورية"، مصطلح، واقعياً ومعرفياً، خاطئ، لأنَّ الإسلام جزء تكويني عميق وأساسي في الصراع الاجتماعي السياسي السوري، وليس دخيلاً أو مارقاً أو مدسوساً. "العلمانية" و"المدنية"، هنا، كانت ستكون ضعيفة الإقناع لكاتب هذا السطور، لو رفعتها الكتل المحتجة.

والحال، فإنَّه يُستثنى من السياق السوري الإسلام الجهادي العسكري السلفي الأممي، بشكله الحالي الممثل بـ"تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام"، داعش، في المجمل ليست وليدة تفاعلات السياق السوري. بالتأكيد ثمَّة جزء أهليَّ سوريّ في "داعش"، تولّد نتيجة تحطم البيئات المحلية الأهلية السوريّة، ولكن إشكالية داعش أكبر من كل حيثيات الصراع السوري، فهي متعلقة بأزمات بنيويَّة عميقة في الجملة النظرية للفكر الحداثي (كضعف قابلة الأفكار الحداثية للتعميم والكونيَّة مثلاً)، وببدء تصدّع مفهوم الدولة في الدول الأوروبية، وفشلها الأكيد في المشرق العربي، وأيضاً، بوضع الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية، والنظرة الغربية العامة إلى الإسلام، وبسياسات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وتغوّل المشروع الإيراني، بالإضافة إلى سياسات المراكز الرأسمالية العالميَّة، وتهميشها دول العالم الثالث. "داعش" سابقة على الصراع السوري، وسورية، بتعفّنها الحالي، هي أفضل ساحة عراك موجودة، لتجسّد هذه الحرب الأهليَّة بين الأصولية الدينية والرأسمالية الغربية.

باستثناء "داعش"، فإنَّ الثورة السورية ـ الحرب الأهليَّة، لم تُسرَق ولم تُغدَر، إنها بيد أهلها وناسها، وأي محاولة لوصفها بـ"ثورة مسروقة" محاولة لسرقتها فعلاً.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: دارا عبد الله
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ