عن نشأة «داعش» السورية و... مسألة التبرير
عن نشأة «داعش» السورية و... مسألة التبرير
● مقالات رأي ٢٢ أكتوبر ٢٠١٤

عن نشأة «داعش» السورية و... مسألة التبرير

الأكيد أن «داعش» ليست صنيعة أي من الأطراف المحلية السورية أو الدولية. ومن المؤكد أنها لم تنشأ بغفلة عن أي من هذه الأطراف. كما أنه كان من الصعب جداً توقّع أو تكهن نشوء تنظيم جائح كـ «داعش»، وأن يتحول إلى حالة أيديولوجية اجتماعية عامة في مناطق واسعة من المنطقة خلال فترة قصيرة. ومع ذلك، لم تكن «داعش» نتاجاً تلقائياً للمجتمع السوري. فالمجتمع السوري لم يكن قبل انطلاق الانتفاضة السورية بيئة منتجة للتطرف الديني أو المذهبي، لكنه كان قابلاً للتحول إلى مثل هذه البيئة لكونه مجتمعاً أقرب إلى حالة التجمع السكاني منه إلى حالة المجتمع المنظّم مدنياً أو سياسياً، مع خواء تام من أي معرفة سياسية.

وبُعيد انطلاق الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011، أصبح الجمهور السوري، من ساهم منه في هذه الانتفاضة ومن لم يساهم، عرضة لتدخل أطراف خارجية من المفترض أن تكون أكثر دراية منه بقواعد الصراع السياسي. ومع استمرار العنف المفرط من جانب النظام تجاه الجمهور المنتفض، أصبح، هذا الجمهور، لقمة سائغة لهذه الأطراف.

سياسات النظام المكابِرة والارتجالية، ونظرته المتعالية إلى مجريات الأمور، جعلته أسير ممارساته القمعية الشديدة، بحيث ما عاد في مقدوره التخفيف من الإفراط في العنف أو حتى التوقف عن إطلاق النار على معارضيه على رغم إصدار الرئيس السوري، في ذاك الحين، أمرين متتاليين بعدم إطلاق النار على المتظاهرين.

وبعد أن استخدم بعض الأشخاص السلاح في مواجهة النظام، نتيجة استمرار ممارساته القمعية العنفية، ونتيجة تهييج خارجي غير معلن، ارتفعت في حينه الأصوات والدعوات من خارج البلاد لرد عنف النظام بعنف مماثل. ظهرت هذه الأصوات بقوة على القنوات التلفزيونية، بل تم استحضارها وتكريسها كممثلة للثورة السورية أو للإرادة السورية.

هذا السياق، الذي بات معروفاً للجميع، وأمور أخرى تندرج ضمنه، أدت إلى حالة من الانفلات الأمني عمّت الكثير من المناطق السورية، القريبة والبعيدة من مركز العاصمة، التي خرجت عن سيطرة السلطة وسُمّيت بالمناطق المحررة. وكان لا بد لحالة الانفلات الأمني هذه من أن تتحول إلى حالة مطلقة من الفوضى العامة تحت غطاء الصراع الثوري، الذي برّر لها كل شيء طالما هناك إمكانية للادعاء أنها في مواجهة النظام السوري.

هذه الفوضى المطلقة، الخارجة عن أي ضوابط أو نواظم، وعن أي قيم، أخلاقية كانت أو ثورية، تم تعزيزها وتكريسها بمال سياسي ذي طابع ديني إسلامي، من حكومات أو من أفراد. كان هذا المال يُدفع في البداية من دون أي شروط لأي مدّعٍ أنه سيقاتل النظام. وفي ما بعد نشأ معيار التديّن السنّي كشرط لإغداق المال الوفير، إلى أن أضيف معيار تمايزي جديد هو القوة والسطوة. فصارت المجموعات والأشخاص الذين يدّعون الأسلمة في حياتهم وفي «جهادهم»، ويدّعون قيامهم بهجمات ظافرة على النظام هم المحظيين بالدعم المالي والمعنوي.

هذه الفوضى شكّلت البيئة المناسبة لنشوء مجموعات متطرفة عدة، تقوم بإعدام الأسرى والتنكيل بالجثث وقطع الرقاب وخطف النساء والمدنيين وتسليح الأطفال، من دون أن يسمى ذلك جريمة طالما هو ضمن سياق «الثورة السورية ضد بشار الأسد». أي أن هذه المجموعات كانت تقوم تماماً بالأفعال التي تقوم بها «داعش» الآن.

الفوضى لا يمكنها أن تدوم أو تطول. فالاجتماع البشري، كائناً ما كان، يميل في شكل طبيعي إلى الانتظام. وكذلك حال الفوضى السورية... فهي تحمل في كينونتها الحاجة إلى انتهائها والانتقال إلى حالة منظومية. وبسبب عدم وجود متدخل خارجي ينظم تلك المناطق «المحررة»؛ وربما لا توجد أي نية عند الأطراف الخارجية لمثل هذا الانتظام، لكون أي انتظام سيميل إلى الانفلات من التبعية المطلقة إلى استقلال نسبي، لهذا كان لا بد من ظهور إحدى المجموعات التي تحمل على عاتقها هذه المهمة، فكانت «داعش».

تمايزت «داعش» منذ نشوئها عن بقية المجموعات الأخرى الشبيهة بأنها تحررت من تبعيتها للنظام السوري. فلم تنشأ كمجموعة معارضة أو مناوئة للنظام، ولم يكن إسقاط النظام من بين أهدافها الرئيسة. فلم تقبل أن تتحدد به أو تتعرف به، بل أرادت أن تتحدد بذاتها وتتعرف بقوتها ومقدرتها، فحققت الانتصار.

أكتب مقالي هذا استجابة لعبارة «أن أحداً لا يمكنه تفسير ما جرى. حتى الذهاب بفكرة المؤامرة إلى أقصاها لا يسعف في التفسير. فلا السؤال عن الجهات الممولة يكفي، ولا عن دول سهلت وسلحت» الواردة في المقال الرائع للصديق حازم الأمين في هذه الجريدة بعنوان: (رحلة «الجهاد» السهلة إلى سورية... ربما هذه هي، 12-9-2014).

ليس مبرراً لنا في هذا الزمن أن نتفاجأ بمجريات التاريخ البشري، فوسائل الاتصال أتاحت لنا تبادل الخبرات والمعارف والمعلومات التي من المفترض أن تمكّننا من معرفة الخطوط العريضة لمسار التاريخ. فالتجارب البشرية التي تأسست عليها علوم السياسة والاجتماع تفيدنا بأن الفوضى العامة والمطلقة يمكن أن تنتج أي شيء من بين خلاياها الجذعية، فيكون «واقعياً» و «حقيقياً». لكن بالتأكيد، من المستحيل التنبؤ بظهور تنظيم باسم «داعش» وقوته.

الخلايا الجذعية لمساحات الفوضى السورية كانت التطرف العقائدي والتطرف العنفي والتطرف الجرمي. فعشرات الآلاف قُتلوا وسُلبوا وخُطفوا للتمرين أو للهو على أيدي مجموعات جرمية «ثورية»، وتمت تغطية جرائمهم باسم «الثورة» أو تحت اسم الأخطاء الضرورية والطبيعية للثورة. فكانت هذه المساحات عشوائية بكل معنى الكلمة، وكان لا بد لقانون الاصطفاء الطبيعي، وفق نظرية النشوء الداروينية، من أن يبقي على من يمتلك مقومات الحياة ويسيطر على هذه العشوائية، وأن يزيح من تنقصه بعض هذه المقومات، فكان «داعش» هو الكائن الذي استحق الحياة.

ليس مشروعاً لنا أن نتفاجأ بظهور تنظيم مثل «داعش» في بيئة ممنوع فيها الكلام السياسي، والكلام الوطني. ممنوع أن توجد فيها النخب، ممنوع أن يوجد فيها السلمي. بيئة ترفض بالمطلق مفهوم الدولة ومفهوم الاجتماع، بل ترفض مفهوم الإنسان. لكن سيتفاجأ بالتأكيد كل من ثبّت نظره على النظام، وعلى مدى الضرر الذي يلحق به، من دون أن يلتفت ولا مرة إلى موقع الخطوات «الثورية، معتمداً المبدأ الخاطئ: عدو عدوي صديقي. والذي رفض التحفظات على عشوائية استخدام السلاح، بل شرعن كل تسلح بحجة عتي النظام وبطشه. والذي اتهم كل من سمّى ما يجري بغير اسم الثورة بأنه معاد للثورة ومواجه لمسيرة التاريخ. والذي أسهب في التنظير «الثوري» مستنتجاً أن الثورات تكون بهذا الشكل، مستشهداً بحكايات ثورية عالمية.

في أغلب الأحيان يكون تَفاجُئنا بظاهرة ما دليل خطئنا في تقدير الأمور أكثر منه عدم واقعية الظاهرة. من هنا أعتقد أن ظاهرة «داعش» تتطلب منا ليس الاعتراف بخطأ التقدير فحسب، بل بتحملنا مسؤولية ظهورها ولو بشكل نسبي، وأنه لا يمكننا الاعتماد على انفعالاتنا بتبرير مسؤولية ما نقوله. كذلك لا يمكننا الاكتفاء بتحميل النظام السوري كل الآثام، فهذه خاصية للشيطان الذي يوسوس في صدور المؤمنين فيجعلهم ينحرفون عن الصراط المستقيم، ويكفي لعنه أو رجمه لإزالة كل ذنوبهم. لكن في الثقافة والسياسة فلا يكفي اللعن والرجم لإزالة الأخطاء.

هذا المبحث لا يحتمل كل هذا الاختصار الذي قاربته به، فهو مملوء بتفاصيل رئيسة تحتاج الى إسهاب ضروري حتى تتضح صورة نشوء «داعش» في سورية. ولكن يبقى في استطاعتي القول دائماً: كان يمكننا أن نكون الآن من دون «داعش».

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: لؤي حسين
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ