غرق الشباب العربي في مياه المتوسط
غرق الشباب العربي في مياه المتوسط
● مقالات رأي ٨ ديسمبر ٢٠١٤

غرق الشباب العربي في مياه المتوسط

لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن نسمع عن غرق قارب يحمل مهاجرين عربا غير شرعيين في محاولة للوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
تقول الأخبار أن عددا أنقذ، والعشرات انتشلت جثثهم، واعتبر العشرات أو المئات في عداد المفقودين. الخبر ليس حتى من الأخبار الرئيسية، أو عناوين النشرة، كما يسمونها، فإذا ما تابعت ما يجري في سوريا وليبيا والعراق ومصر واليمن، وغيرّت محطة الجزيرة مثلا، فسيفوتك الخبر الذي سيأتي في نهاية النشرة. حتى الصحف العربية لا تنشره في صفحاتها الأولى. أما صفحات التواصل الاجتماعي فهي منهمكة في أمور أخرى، وإذا ما صدف أن إحدى الصفحات نشرته باقتضاب، فقد يمر مرور الكرام من دون أن يلاحظه أحد، أو يحظى بأي لايك أو شير.
الظاهرة مقلقة وتبعث على الحزن، وإن كانت دوافعها معروفة. قبل الثورات كانت الأوضاع الاقتصادية صعبة للغاية، وعاشت نسب لا يستهان بها من العائلات تحت مستوى الفقر. في ظروف كهذه، في دول أخرى، عادة ما تدفع بالبشر إلى كسب المال من طرق غير مشروعة، كالدعارة أو الاتجار بالمخدرات، أو الانتحار، ولكن هذا لم يحصل لحسن الحظ بشكل واسع نتيجة تمسك المواطن العربي بالقيم والعادات ووازع من دين. الوضع الاقتصادي تدهور بعد الثورات من سيئ إلى أسوأ، وكذلك الوضع الأمني وانعدمت فرص العمل التي كانت أصلا عملة نادرة. في وضع كهذا، من المنطق أن يفكر الشباب بالبحث عن فرص العمل، كمصدر لكسب الرزق، خارج أوطانهم، ولما كانت الطرق المشروعة ضئيلة، لم يجدوا أمامهم الا الهجرة غير الشرعية، بالتهريب.
الغريب أن هؤلاء الشباب المحتاجين للمال يدفعون لعصابات التهريب مبالغ كبيرة، هم لا شك بحاجة إلى كل ليرة أو دينار أو جنيه منها. الأغرب أنهم سمعوا عن المخاطر التي تحيق بهذه القوارب الصغيرة في عرض المتوسط، وغرق العديد منها، وفقدان المئات من مستقليها لحياتهم، هل هي المقامرة إذن في محاولة يائسة لمقارعة الاحتمالات؟ أم أنها، في اللاوعي محاولة للهروب، أو الانتحار؟
هل الدول العربية التي يهرب منها هؤلاء شحيحة الموارد، ليتها كذلك، ولكنه الفساد الذي يعشش في أركانها. إن تقرير منظمة الشفافية الدولية يكشف أن الدول العشر التي تتصدر الفساد في العالم، ست منها عربية، للأسف. أما باقي الدول العربية فليست ببعيدة عن منصة التتويج للفساد. يعزو البعض انتشار الفساد في عالمنا العربي لغياب الديمقراطية والحريات العامة والشفافية ونظم المحاسبة والمساءلة والقضاء المستقل والإرادة السياسية لتحسين الوضع.
الشاذ عن هذه القاعدة هو أن دولتي قطر والإمارات تبوأتا منزلتين متقدمتين مع الدول الاوروبية التي تعاني من فساد أقل، مع أنهما ليستا دولا ديمقراطية، والفارق أن قطر تتمتع بهامش من الحريات أكبر من الإمارات.
عودة إلى الفساد، المليارات من الدولارات تسرق من الشعوب وتنتهي في حسابات سرية في بنوك أمريكا وسويسرا وباقي الدول الاوروبية. أموال مبارك والقذافي وبن علي لم تسترد بعد، واحتمال استردادها ضئيل جدا، وتتمتع بها الدول التي أودعت فيها على حساب الشعوب العربية، وشبابها الذي يغرق في المتوسط. يعتقد البعض أن الرئيس أو الملك في الدول العربية هو الفاسد فقط. المحزن أن الفاسد يرسم حوله دوائر كبيرة لا تتوقف عن الاتساع حتى تشمل قطاعا واسعا من الشعب المنتفع من هذا الفساد. الفساد يعم «بخيره» الجميع ماعدا المواطن البسيط، والشباب العاطل عن العمل الهارب لشواطئ المتوسط يبحث عن عصابه تهربه إلى أيطاليا أو اليونان أو…..، ويلقى حتفه غرقا قبل أن يصلها.
مع تكرر حوادث الغرق هذه، لم نسمع عن أي تحقيق في أي دولة عربية بحثا عن عصابات التهريب التي تغرر بالشباب وتسرق أموالهم، وتحشرهم في قوارب صغيرة «كالسردين» فتكون النتيجة الحتمية، الغرق تحت جنح الظلام في المياه الباردة، حيث لا يسمع صراخهم أحد. هذه الأوطان التي جنت عليهم، حرمتهم من الحياة الكريمة على ترابها، والأشد حزنا أنها بخلت عليهم بقبور تحت ترابها، ورمتهم إلى قاع المتوسط لتنهش لحومهم أسماكه، ويموتون بعيدا عن ترابه الذي لفظهم أحياء وأمواتا.
فرحنا بالثورات العربية، واعتقدنا أنها ستزيل الغيوم الملبدة فوق منطقتنا من الديكتاتوريات الفاسدة التي تعرف أن تحافظ على كل شيء إلا على كرامة المواطن، لم يحدث ليس لأن هذه الثورات سيئة أو بدأت كمؤامرات، لا، ولكن لأن منظومة الفساد كانت بالقوة التي مكنتها من التماسك ومن اصطفاف نصف الشعب معها، في محاولات لعرقلة الثورات أو الانقلاب عليها. الفساد وجد من يدعمه أيضا إقليميا وعالميا، فتعقدت الأمور، وضاعت الأوطان. مسكين هذا المواطن العربي، سيئ الحظ، إلى درجة انه ينطبق عليه المثل المصري الطريف «تعيس الحظ بيلاقي العظم في الكرشة» أو «اللي ماله حظ لا يتعب ولا يشقى».
أيها المتوسط، ذو الأمواج العاتية، رفقا بشبابنا، تركوا أهلهم وراءهم في أوطانهم من أجل حياة كريمة، فلماذا تكسّر أمواجك، عديمة القلب، أحلامهم. هلا سألت أمواجك العالية أن تهدأ وتحملهم بسلام إلى مواطن أحلامهم؟
عندما يصبح لحـــــياة المواطــــن في أوطاننا قيمة، حينها سنرى عصابات تهريب الشباب العربي عبر المتوسط وراء القضبان، ليلاقوا جزاءهم، والأهم من هذا ليعترفوا، من وراءهم.

المصدر: القدس العربي الكاتب: د. خليل قطاطو
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ