في مشكلات الثورات المسلحة ومآلاتها المأساوية
في مشكلات الثورات المسلحة ومآلاتها المأساوية
● مقالات رأي ٤ ديسمبر ٢٠١٦

في مشكلات الثورات المسلحة ومآلاتها المأساوية

فيما المعركة تدور على حلب التي تقصف بوحشية بالصواريخ والبراميل المتفجرة لفرض الاستسلام على فصائل المعارضة المسلحة، أو تعريض سكانها للقتل والتشريد مع تدمير عمرانها، ثمة محادثات تدور بين ممثلين عن الفصائل العسكرية مع مسؤولين روس برعاية تركية، في أنقرة، وأخرى تجري بين موفدين أميركيين وروس في جنيف، في حين أن كل ذلك لم يمنع الفصائل من التنازع والتقاتل، على رغم الحديث عن توحيد فصائل بما سمي «جيش حلب».

اللافت أن كل الأطراف تتصرّف وكأن مصير الصراع السوري سيتقرّر في حلب، وضمنه مصير ثورة السوريين، فيما يتم التلويح من روسيا باعتماد نموذج «داريا»، أو «غروزني»، في حين أن الواقع يفيد بأن النظام لا يملك من أمره شيئاً تقريباً، لا في حلب ولا في غيرها، وأنه لولا الدعم الروسي السياسي والعسكري (لم يكفه الإيراني ولا ميلشيات حزب الله وأبو الفضل ونجباء وفاطميون) لما بقي له شيء، بغض النظر عن مآلات الثورة السورية، بما لها وما عليها.

ثمة أسئلة عدة تطرح نفسها هنا، ومثلاً، هل كانت الفصائل العسكرية التي طالما تحدثت عن اقتراب إسقاط النظام، وعن ساعة «صفر» في دمشق وفي حلب، وعن «ملحمة» هنا وهناك، تدرك ما تقوله حقاً؟ ألم تكن هذه الفصائل تعي حدود قدراتها التسليحية، ومدى قدرتها على الاحتفاظ بما بات يعرف كـ «مناطق محررة» سيما بعد دخول روسيا كطرف مباشر في الحرب؟ ثم إذا كانت تدرك هذا وذاك فلماذا وقعت في هذا الفخّ؟ ألم يكن الأجدى لها انتهاج استراتيجية عسكرية تتناسب مع قواها وتجنّب أهل حلب هذه المعاناة التي لم تخدم إلا النظام؟ أيضاً، لماذا ذهبت الفصائل العسكرية إلى المفاوضات مع الطرف الروسي ولم تفعل بنفسها ما ينبغي عليها فعله قبل الوصول إلى هذه الحال الكارثية؟ وأين هو «الائتلاف الوطني»، الكيان السياسي للمعارضة من هذه المفاوضات؟ ثم هل كانت الفصائل العسكرية لتسكت عن قيام أي طرف معارض بمفاوضات مع روسيا وهي تقتل وتدمر السوريين؟

ليس الغرض من هذه التساؤلات تسجيل مواقف، أو التقليل من شأن تلك الفصائل، وتضحيات منتسبيها، لكن الغرض منه التوضيح أن هذه المآلات كانت نتيجة لعدم إدراك الواقع، والمبالغة بالقدرات، وتجاهل العالم، وتغليب العواطف، وغياب استراتيجية عسكرية ملائمة وممكنة، وعدم ربط الصراع العسكري بالصراع السياسي، والتوضيح أيضاً أن العامل الخارجي بات هو المتحكّم بالصراع السوري أكثر من النظام وأكثر من المعارضة وفصائلها المسلحة.

الخطأ القاتل الذي يمكن ارتكابه هنا هو تقديس العمل المسلح، أو وضعه خارج النقد، كما في الحالة الفلسطينية، في حين أن الثورات، بخاصة المسلحة منها، تفترض هذا النقد لترشيد أوضاعها، وتقليل الأثمان الناجمة عنها، ولتحقيق الإنجازات بأفضل ما يمكن، ناهيك بأن الثورات تتأسس أصلاً على تحرير العقل وضمنه تحرير السياسة وجعلها ملكاً عاماً للمجتمع.

أيضا، ليس الغرض من التساؤلات الإيحاء بطلب ثورة جاهزة، وفقاً لمواصفات نمطية، على المسطرة، فهذا كلام غير واقعي، إذ تأتي الثورات على شكل انفجارات مفاجئة وعفوية، لا يمكن التحكّم بها ولا هندستها، ومع تداعيات سلبية أو إيجابية لا يمكن توقّعها تماماً.

بيد أن ما ينبغي إدراكه أن الأمر مع الثورات المسلحة مختلف تماماً، إذ هكذا ثورات تطول كثيراً، من الناحية الزمنية (الجزائرية والفلسطينية مثلاً)، لذا فهي تحتاج إلى إمكانيات كبيرة، مالية وتسليحية وتسهيلات لوجستية، ما لا يمكن توفيره ذاتياً في مجتمعات فقيرة ومسيطر عليها، إذ هذا الشكل من الصراع يحتاج إلى دعم خارجي، من دولة أو دول عدة. فوق ذلك فإن هكذا ثورات تحتاج إلى إعمال التفكير والتدبير لتقليل أثمانها، على فرض الوصول إلى الهدف بأقرب وقت وبأفضل شكل ممكن.

على ذلك فإن الكلام عن الحركات المسلحة بوصفها ثورات هو كلام مجازي، سواء كانت من أجل التحرر الوطني (كالفلسطينية والجزائرية مثلا)، أو معارضة تستهدف تغيير النظام كمثل الحالة السورية، ذلك أن هذه الحركات يفترض أنها تتطلب أرقى أشكال التنظيم والوعي والإدارة، كونها تحتاج إلى استعدادات وتأهيلات من نوع خاص، كما ذكرنا.

في الحالة السورية نشأت ظاهرة الفصائل المسلحة، منذ البداية، ليس كنتاج للمعارضة السياسية، ولا بفضل الحراكات الشعبية في المجتمع السوري، ولا على أساس الإمكانات الذاتية، وإنما بفضل التشجيع والدعم الخارجيين، ونحن هنا لا نقصد ظاهرة «الجيش الحر» ولا الجماعات الأهلية التي تسلحت للدفاع عن القرى او بعض أحياء المدن، وإنما عن الفصائل المسلحة، ذات الطابع الأيديولوجي، التي بلغ عددها العشرات، من دون ان يكون لها مرجعية واحدة، ومن دون أي تنسيق في ما بينها، والتي اشتغل معظمها كسلطة في «المناطق المحررة»، وبالمنازعات الجانبية مع الفصائل الأخرى، إلى درجة التقاتل تحت أنظار النظام، وعلى مقربة من جبهاته، وهذا حصل أخيراً في الغوطة الشرقية لدمشق وفي حلب تحت الحصار والقصف.

أيضاً، مع ارتهان الفصائل للدول الداعمة، وضبط حركتها على إيقاع هذه الدول السياسي والتسليحي، والارتباط بأجندتها، على حساب اجندة السوريين، فإنها لم تراع ولا مرة امكانياتها المحدودة، ولم تدرك تماماً الحدود التي يسمح لها النظام الدولي بالوصول إليها، ما أدى بها إلى استنزاف قواها، وتالياً إدخال الثورة، وشعبها، في معارك فوق طاقتها وقدرتها على التحمل، ناهيك أن ذلك سهّل على النظام، تحويل ما اعتبره بيئات حاضنة للثورة إلى حقل رماية لمدفعيته وطائراته، ودفع السوريين إلى التشرد واللجوء.

المشكلة أنه لا توجد للثورة السورية أية مرجعية من التجارب التاريخية، فقادة الفصائل العسكرية يتصرفون في الغالبية بطريقة عنجهية غير مسؤولة، وتغلب عليهم النظرة العاطفية والقدرية، وكل ذلك لا ينفع في الصراعات المسلحة، التي تحتاج إلى إمكانات، وإلى ظروف دولية وإقليمية وعربية مساندة. بل إننا شهدنا بأن هذه الفصائل فعلت كل ما بوسعها لخدمة النظام، بخطاباتها الطائفية والدينية المتعصّبة والمتطرّفة، وبتخلف إدارتها للمناطق المحررة، وبانزياحها عن الأهداف الأساسية للثورة، والمتعلقة بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين في نظام ديموقراطي.

لم يدرك قادة هذه الفصائل أنه من دون استثمار العمل العسكري في السياسة سيؤدي ذلك إلى تبديد التضحيات، وأن موازين القوى أمر مهم في الصراعات العسكرية وأن هذه لا تحصل بالعواطف والروح القدرية التي لا تستطيع شيئاً أمام البراميل المتفجرة ولا أمام الصواريخ الفراغية والارتجاجية، كما لم يدركوا أن الثورات المسلحة عبر التاريخ لم تنتصر إلا لأن العامل الدولي لعب دوراً كبيراَ في انتصارها، وهذا أكثر ما ينطبق على الثورة السورية.

ينبغي هنا طرح الأسئلة من دون حرج، فكيف تأنّى للثورة السورية تغليب العمل المسلح، من دون استعدادات ذاتية، ومن دون إمكانات، ومن دون تطور في فعاليات الثورة، التي لم تستطع حتى الآن تنظيم عصيان مدني؟ ثم كيف أمكن الاستمرار على ذات الطريق على رغم خسارة منطقة تلو الأخرى، وعلى رغم تشرّد ملايين السوريين، وتبيّن محدودية الدعم الدولي وانكشاف ما يسمى معسكر «أصدقاء سورية» مع تلاعباتهم وتبدّل مواقفهم؟ والمعنى أن الثورات ليست مجالاً للهواة والمغامرين، وليست سياحة ولا حلماً ثورياً، لاسيما أن للثورات العنيفة والمسلحة أثمانها الباهظة وتداعياتها الكارثية والسلبية على المجتمع المعني حتى لو انتصرت.

الثورة السورية النبيلة والمستحيلة واليتيمة والشجاعة هي الأكثر شرعية وصعوبة وتعقيداً بين مجمل ثورات الربيع العربي، بما لها وما عليها، مع ذلك يفترض إدراك أن الثورات قد تنتصر وقد لا تنتصر، وقد تنحرف، أو قد تحقق أهدافها جزئياً، كما قد تدخل في مساومات، لكنها مع كل ذلك تكون فتحت الطريق للتغيير، فالماضي لا يمكن أن يعود، وأثمان الثورات باهظة جداً جداً، لكن التاريخ يعمل على هذا النحو وليس على نحو ما نشتهي.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: ماجد كيالي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ