لا تسامحوا هذا العالم
لا تسامحوا هذا العالم
● مقالات رأي ٢ سبتمبر ٢٠١٨

لا تسامحوا هذا العالم

قال سقراط منذ القرن الخامس قبل الميلاد: "الخوف يجعل الناس أكثر حذرًا، وأكثر طاعة، وأكثر عبودية". تحوّلت هذه المقولة إلى منهج حقيقي يستخدمه الطغاة، خصوصا طغاة هذا العصر، لاستعباد شعوبهم، ولعل أهم مثال هو النظام الحاكم في سورية، لن يتفوّق عليه أحد في حجم الرعب الذي نشره، وفي طريقة استفادته من هذا الرعب، وجعل الإنسان السوري مخيرا دائما بين وجود النظام ونشر الفوضى والموت في كل زاوية وكل لحظة.

يحتفي العالم باليوم العالمي للمغيّبين قسريا، وفيه توثّق منظمات حقوق الإنسان ما يزيد عن ستين ألف اسم سوري مغيب قسريا، لا يعرف أحد عنهم شيئا، وتقول الأمم المتحدة إن 90% منهم مغيبون على يد عناصر الأمن التابعة للنظام الذي لا يعترف بوجود أحد منهم، والذي يعتمد التغييب القسري للتخلص من الناشطين، ولإثارة المزيد من الذعر، والخوف، وللتهرّب من مساءلته عن مصير معارضيه السلميين المغيبين قسريا، والذين ليس بينهم وبين اعترافه بموتهم تحت التعذيب إلا بعض الزمن، وبعض الأرقام التي تحولوا إليها، بعدما كانوا عقولا تحمل أحلام الحياة والحرية والعدل والمساوة، وتراهن على عالمٍ خذلها حتى الموت.

وقد كانت الأمم المتحدة، وفي قرار للجمعية العامة مؤرخ في 21 ديسمبر/كانون الأول 2010، قد أعربت عن قلقها العميق تجاه ازدياد حالات الاختفاء القسري، أو غير الطوعي، وتجاه تزايد عدد التقارير التي تشير إلى تعرّض أقارب المختفين للمضايقة، وسوء المعاملة أو التخويف، وإلى المضايقات التي يتعرّض لها المدافعون عن حقوق الإنسان، والشهود، والمحامون الذين يعنون بقضايا الاختفاء القسري؛ كما أنها أكّدت على خوفها من استغلال الدول الاستبدادية أنشطة مكافحة الإرهاب ذريعةً لانتهاك التزاماتها بقوانين حقوق الإنسان. وقد اعتمدت الجمعية حينها الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، كما قرّرت أن تعلن 30 أغسطس/آب يوما دولياً لضحايا الاختفاء القسري، يُحتفل به اعتباراً من عام 2011، لكنها لم تتوقع أن يكون ذلك العام، وهو عام بدء الثورة السورية، بدايةً لتسجل سورية أكبر رقم للمختفين قسريا في العالم.

كانت حالات الاختفاء القسري قد بدأت في سورية منذ استلام الأسد الأب السلطة، خصوصا لمعارضيه السياسيين، ولزملائه في عملية الانقلاب العسكري التي قام بها، واستمرت بعد استلام الأسد الابن الذي أوهم الناس ببعض الانفتاح السياسي، ما جعل السياسيين يشكلون المنتديات في عام 2000. وشنّ بعدها بسنة حملة اعتقالات مرعبة، طاولت كل من وقّع على "إعلان دمشق" الذي جاء بعد مرحلة "ربيع دمشق" التي طالب بها مئات المثقفين في سورية، بالقيام بإصلاحات جذرية، وبإنهاء السلطة الأمنية التي تحكم البلاد، ورفع حالة الطوارئ، وبالسماح بقيام أحزاب مختلفة تتناوب على الحكم، وباستعمال منهج اقتصادي جديد ينقذ البلاد، وينهي الفساد الاقتصادي والسياسي فيها، لكن المشاركين جميعهم قوبلوا بالاعتقال والتعذيب، أو بالاختفاء القسري.

وبعد بدء ثورة الكرامة في سورية، ازدادت حالات الاختفاء القسري بطريقةٍ مرعبة، جعلت الأمم المتحدة تطالب بتشكيل "لجنة خاصة لتقصّي مصير ضحايا الاختفاء القسري في سورية"، وسمحت لمحامين سوريين عديدين بإثارة هذا الموضوع على المستوى العالمي، ولعل ما يقوم به أنور البني ومشيل الشماس هو أول خطوة عالمية حقيقية. لكن هل ستنجح في تذكير العالم بالذين يعيشون فقط بأسمائهم ما بين الموت والحياة؟

في اليوم العالمي للمغيبين قسريا، يحضر في أرواحنا وذاكرتنا المحامي خليل معتوق الذي دافع طوال عمره عن كل معتقلي الرأي في سورية، والذي أثار قضية المغيبين قسريا، وغيب قسريا منذ عام 2014، من دون أن يستطيع أحد معرفة شيء عنه. وهناك عبد العزيز الخير الذي دافع عن سلمية الثورة، واعتقله النظام منذ ست سنوات، ولم يعد يعترف بوجوده، على الرغم من طلب منظمات حقوق الإنسان العالمية الكشف عن مصيره. ونذكر ناصر بندق ومحمد ظاظا وزكي كريللو وابنه، ورانيا العباسي وزوجها عبد الرحمن ياسين وأطفالهما الستة، ولا ننسى رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادة. واليوم نذكر أيضا مختطفات السويداء، اللواتي اختطفتهم عصاة النظام التي ينخرها السوس، وتسمى "داعش"، منذ شهر، ولم يزلن مغيبات قسريا، بينهن اثنتا عشرة طفلة.

نذكُركم يا ستين ألف قلب، وستين ألف حلم، وستين ألف أم تيبست وهي تنتظر، نذكركم ولا نعرف إن كنتم في زنازين النظام حيث تموت الحياة، أم أصبحتم كومة عظام في مقابر جماعية، تسع عظامكم وضمير العالم معكم. نقول لكم: لا تسامحوا هذا العالم، لا تسامحوا الأمم المتحدة، لا تسامحوا اليوم العالمي للمغيبين قسريا. ولا تسامحونا، لأننا لم نعد نمتلك لكم سوى الكتابة عنكم، وحمل أحلامكم معنا إلى بلاد الله الضيقة.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: ميسون شقير
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ