لحظة الحقيقة
لحظة الحقيقة
● مقالات رأي ٢٣ نوفمبر ٢٠١٦

لحظة الحقيقة

كتبتُ في صحيفة الاتحاد الإماراتية عام 2000 مقالاً بعنوان (نحو عقد اجتماعي جديد) دعوتُ فيه إلى قيام عقد اجتماعي جديد في الدول العربية كافة، يتنازل بموجبه المواطنون عن بعض حقوقهم الجوهرية مقابل حقوق أخرى لا تقل أهمية.. كما يتنازل فيه الحكام عن بعض امتيازاتهم من أجل مصالحهم ومصالح أوطانهم.. فمثلاً، يقر المواطنون ومنظماتهم السياسية بشرعية حكامهم ويتعهدون بعدم الخروج عليهم.. ويتعهد الحكام بآليات تكفل العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، وضمان الحريات الشخصية والعامة، كما يتعهدون ببناء أقطارهم بناء حديثاً قوياً يردع الأعداء ويكفل استقلالية تلك الدول، وتتم صياغة هذه المبادئ الأولية في عقد اجتماعي جديد في كل قطر، بحيث يرتاح الحاكم من القلق على منصبه ويرفع سطوة أجهزته وممارساته القمعية ويتفرغ لبناء دولة قوية صلبة تستطيع مواجهة المخاطر الخارجية بدل ذلك.. في حين يأمن الناس على حياتهم وأرزاقهم وحرياتهم الأساسية على الأقل!

مثل هذه الأفكار لم تكن غريبة في ذلك الوقت عن الفكر السياسي العالمي. فكثير من الحركات السياسية في أمريكا اللاتينية مثلاً، دعت إلى مقاربات مماثلة  في مواجهة العولمة التي تهدد السيادة الوطنية وتفرض قوانينها الخاصة على الدول بالضد من مصالح الشعوب.. (اتفاقيات منظمة التجارة العالمية المجحفة بحق الدول النامية، واتفاقيات الملكية الفكرية التي تدعم سلطة الأقوياء، وغير ذلك من الاتفاقيات العابرة للحدودة)!  وشبّهت تلك الحركات السياسية المعارضة دولَها وأنظمتها بالقفص الذي يتهدده وحش خارجي كاسر (هو العولمة).. وبدلاً من كسره (طلباً للحرية) يمكن الاتفاق مع الحاكم لتدعيمه وجعله بيئة سعيدة آمنة!!!
 
ولكني في ذلك الوقت لم أكن أفكر في هجوم العولمة على العرب، بل في هجوم القوى الإقليمية والعالمية على بلدانهم ونفطهم وسيادتهم
وهو هجوم كان حاصلاً بالفعل، وإن لم يكن بالشراسة والشمولية التي نراها اليوم.
   
واليوم يدرك العرب الحقيقة الكبرى، بعد أن تأخر الوقت، وأصبحوا في عين العاصفة! يدركون حقيقة أن الدول لا تُبنى وتستمر عبر التحالفات الخارجية وحدها.. فالمصالح تتغير، وينقلب الصديق عدواً، والحليف خصماً عندما تنتهي مصالحه.  والدول القوية العظيمة تقوم على الجد والعمل الدؤوب لبناء القدرات الذاتية في كل المجالات. وأول تلك المجالات الحكم الرشيد العادل، المؤدي إلى تماسك الشعب وولائه، وبناء القدرات العسكرية الرادعة، والقدرات الاقتصادية الحقيقية المنتجة، القائمة على العلم..  ففي عالم اليوم (كما كان العالم دائماً) لا مكان للضعفاء، ولا يحمي أحد أحداً لسواد عيونه! فالوطن عادة ما (يُحرّمه لمعُ الأسنّة حوله) كما أشار المتنبي في معرض حديث آخر.. ولا يُحرّمه على الطامعين لا ضعفه، ولا تحالفاته، ولا ميله للسلام والمحبة والأخوة العالمية.. فالسلام والتسامح والمحبة مفاهيم لا تصلح في السياسة دون مطارق تكسر رؤوس من يفكر بخرقها!

يدرك العرب اليوم، وخاصة أشقاؤنا في الخليج العربي، لحظة الحقيقة واستحقاقاتها بعد أن كشرت إيران عن أنيابها على الملأ.. وبعد أن شهدوا أعتى حلفائهم يتواطؤون مع إيران ويتنازلون لها طائعين عن المنطقة بأسرها.. وبعد أن تضاءل كثيراً اعتماد أمريكا على نفطهم..  يدركون أن أحداً لا يمكن أن ينفعهم في هذا العالم سوى شعبهم وقوتهم..  فيدعو مفتي السعودية مثلاً إلى تطبيق التجنيد الإجباري في المملكة،  وهي خطوة كان ينبغي أن تتم منذ عشرات السنين، ليس في المملكة فحسب، بل في كل بلد عربي. ولكن ذلك يجب أن يبدأ بالشرط الأول المشار إليه أعلاه: شرط الحكم الرشيد العادل الحازم!!

هذا الربيع العربي الذي تآمرت عليه جميع قوى الردة، الداخلية والخارجية حتى انقلب كابوساً وحول كثيراً من الدول العربية إلى دول فاشلة تمزقها الصراعات والحروب.. ربما كان بالإمكان تجنبه لو قدر لمثل ذلك العقد الاجتماعي أن يتطور بين الحاكم والمحكوم!

الكاتب: نبيل البرادعي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ