نعم "ليتها لم تكن"
نعم "ليتها لم تكن"
● مقالات رأي ١٦ مارس ٢٠١٧

نعم "ليتها لم تكن"

بنظرة طائرٍ يمر فوق سوريا، على فَرضِ أنه محميٌّ من الطائرات والقذائف، سيقول: ليت ما كان لم يكن، فإنها كانت "محميّةٌ" طبيعية جيّدة لمعيشة الكائنات الحية، عدا الإنسان.


أصعب من دمار البيوت على رؤوس أصحابها، أنها خاوية فأهلها هم جدرانها وأعمدتها مهما تهاوَتْ، أقسى من انعدام طُرق الحياة، أن بعضًا من الناس لم يعودوا معنيين بالبحث عنها، أشد قهرًا من ظروف الاعتقال، المنتظرات لأي خبرٍ عن المُعتقل وليس انتظار عودته، أكثر بُعدًا من الموت، أولئك المختطفين أو المختفين، فلا العزاء يُعزّي فاقديهم، ولا الانتظار يخفف غيابهم، أفظعُ من الهزيمة، أن لا تعرف عدوّك.


نعم، ليت كل ذلك لم يكن، فما من أحدٍ يسعى إلى أن يُقتل أهله، ويُهدم البيت وأصحابه تحت أنقاضه، وأن يموت الناسُ جوعًا ـ وهذا ليس مجازًاـ، وأن تضطرب أنفاس الخلائق ولو للحظة بالغازات السامة، وأن ينشأ جيلٌ لا يعرف مبادئ العلم والتفكير، عداك عن كل المصائب الأخرى، وهذه من البَدَهيّات التي لا نقاش فيها، ولكن لماذا ما زال الناس يصرّون على معايشة كل هذه المآسي والآلام؟! لماذا خرج الناس وهم يعلمون أنهم سيُقتلون، ثم خرجوا وهم يُقتلون، ثم خرجوا بعد أن قُتلوا، ثم خرجوا على قاداتهم، وما زالوا يقاوِمون بما أوتوا؟، لماذا يُصرّون على دفع هذه الأثمان من جيوبهم لا من جيوب سواهم، من نفوسهم ونفوس أبنائهم، من دمائهم التي جرت أكثر من مياههم، لماذا كل هذا؟ لأن اتفاقًا ضمنيًا بين الناس يقول لهم: كل ثانيةٍ نتراجع فيها ثمنها سنواتٌ من الخنوع والخضوع، لأن الناس لن تُسلّمَ أمرها لطاغيةٍ ولا لمحتل، مرةً ثانية.


إذا كان الصدام مع النظام قد جلب للناس كل هذه المصائب، فإنه كالمخاض موجِعٌ ولازمٌ، فحتميّة الصدامات بين الناس والسلطات القمعية تبشّر بالمصائب والآلام، وهذا ما اعتمده نظام الأسد، أن يقول للناس في كل مكان: "هذه مصائر الصدامات معنا"، ولعل أنظمة أخرى أعانته على ذلك لإيصال هذه الرسالة، ومنها المجتمع الدولي "المُتحضّر" الذي ترك الناس أمام مصائرهم، ووقّع على قرار إعدامم ودفن مستقبلهم متحججًا بألاعيب وشماعاتٍ سئم الأطفال من انتقادها وردها على مُطلِقيها.


تنوّعت المواقف بين السوريين في ذكرى انطلاق الثورة، ولعل هذه السنة كانت الأوضح على اختلاف المواقف بينهم أو على المزيد من إلقاء حجارة الرجم عليها، وهذا يؤكِّدُ أن لا مقدّس الآن، وكل شيء عُرضة للمراجعة والتفنيد، وربما كان عام 2016 أسوأ ما مرّ على الثورة والبلاد، وهذا ربطٌ جيّد، فكلما رأينا الثورة منتعشة تأمّلنا بمستقبل البلاد، والعكس بالعكس، فهو اعترافٌ ضمنيٌ بأهمية الثورة ومآلاتها.


ليتها لم تكن، يحقّ لأي متألمٍ أن يقولها، نعم ليت هذا الصدام لم يكن، ولكن صمامات الأمان بين السلطة والناس كانت مهترئة، تصدّأت من عفن الطغاة وأعوانهم ـ مشايخ ومفكرين ووجهاء ـ فكان ما كان.


ليتها لم تكن، يحق لأي مخذولٍ قولها، وهو الذي رأى مَن اغتنوا مِنْ جُرحه، وسكنوا مِنْ تشرّده، وشبعوا مِن جوعه، لكن المحاولات الفاشلة لا تعني النهاية أبدًا، وخاصة أن الناس لم تُهزم، وعادةً الناس لا يُهزمون.


ليتها لم تكن، تلك السلطة / العصابة، التي تقتل من يحلمون وتصلبهم على جدران جبروتها، تحاصر الناس ثم تطلب من عجوزٍ أن يُقلد صوت الكلب كي يأخذ رغيف خبز لعياله ـ كما حدث في مخيم اليرموك ـ، هذه السلطة التي ليتها لم تكن، كي لا نتصادم معها هذا الصدام الهائل.


ست سنوات من الموتِ الفائضِ والعناد، لا بد أن الثوار ـ جميع الثوارـ قد أخطؤوا بأماكن وأصابوا في أخرى، فثورات الكريستال خيالٌ علميٌ أمام واقعٍ كهذا، ولا بد أن الانحرافات كثيرة، ولا بد أن "الصف الأول لم يتجذّر"، ولا بد ولا بد ..، ولكن، أعرفُ سيدةً ما زالت تخبِزُ للناسِ، وتنسج صوفًا، وتصلّي، وتقدّم للأمل المقطوعِ من الأشجار .. أغانيها، تلك الثورة.

المصدر: شبكة شام الكاتب: محمود الطويل
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ