ليلة القبض على البوط العسكري
ليلة القبض على البوط العسكري
● مقالات رأي ١٧ يوليو ٢٠١٦

ليلة القبض على البوط العسكري

بعد أن تذبذب مقياس التوقعات لصالح هذا أو ذاك، وبعد أن وضعت التوترات أوزارها، وبعد أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود،  يستطيع القلم الآن أن يسجل ما يرتاح إليه القلب ويقتنع به العقل..

المعني من هذا الكلام هو ما جرى ليلة الخامس عشر من تموز في تركيا.. ففجأة وخارج كل التوقعات، حدثت محاولة انقلاب، وكان الغموض سيد الموقف لعدة ساعات.. ثم يحتل الانقلابيون مبنى التلفزيون الرسمي، ويذيعون منه بياناً يعلنون فيه السيطرة على الحكم وفرض الأحكام العرفية ويمنعون التجول إلى غير ذلك من الإجراءات، ومنها استهداف مبنى البرلمان التركي بالقنابل لمنع النواب من الاجتماع تحت قبته، وتعبيراً غير معلن عن النية المسبقة في القضاء على الديمقراطية..

إذن.. الانقلاب نجح، هذا ما يمكن استنتاجه للوهلة الأولى، ثم يبدأ الإعلام العالمي نشاطه العشوائي وتكثر التوقعات والتخمينات، منها البريئة ومنها المغرضة، فبعد الإعلان عن توجه رئيس الجمهورية طيب أردوغان إلى اسطنبول، ثم إلى مطار أتاتورك، اشتغل الدويّ الإعلامي المغرض، ولا سيما إعلام النظام السوري وحزب الله وإيران وإعلام السيسي ومن لفّ لفهم، وأخذوا يفبركون الأخبار وهم يفركون أيديهم فرحاً، ويؤكدون على أن أردوغان في طريقه إلى الهرب خارج البلاد، ومنهم من قال إن أردوغان طلب اللجوء الى ألمانيا..

أما قناة الميادين فتأكد لديها أن الانقلاب نجح بجدارة، من هنا استبقت الزمن كثيراً، حين ذكرت أن " الجيش التركي " أمهل المعارضة السورية يومين فقط لمغادرة تركيا "..

وعلى اعتبار أن  إعلام السيسي هو إعلام أحمق، سفيه، فاجر، حاقد، فقد سارع مشاهيره للتعبير عن مشاعرهم القبيحة عبر أقلامهم المأجورة.. فهذا أحد مقدمي البرامج التلفزيونية يقول: لم يقم الجيش التركي بانقلاب، وإنما قام بثورة، وإذا قام الجيش التركي بثورته، فلا بد أن ينتصر، وها هو قد انتصر. "..

حتى مصطفى بكري الصحفي المشهور بصوته الخطابي، وعضو برلمان السيسي، والعاشق المخلص للرئيس بشار الأسد..!!. كتب يقول مقرراً: سقط أردوغان، وبقي الأسد، وانتصر الجيش التركي، وسبحان مغير الأحوال، "..  

أما عامة الناس وشبيحتهم، ممن يهوون توزيع الحلوى في الأفراح والليالي الملاح، فقد اشتروا أسفاط الحلوى وهيأوا زمامير سياراتهم للتجول في الشوارع تعبيراً عن سرورهم الغامر، وانتظروا قليلاً ليقوموا بتوزيعها على المريدين والمشاركين معهم في احتفالات سقوط أردوغان.. وهذه حقيقة جرت في دولة عربية شُرّد نصف سكانها واستشهد فيها أكثر من نصف مليون إنسان، كما جرت في دولة عربية ليس فيها دولة.!!!. ومن طائفة تعتمد ثقافة البكاء على دماء الرموز المذهبية التاريخية منذ نحو ألف وخمسمائة عام، وتطالب بالثأر من أحفاد الأمويين في القرن الواحد والعشرين.. 

ويقال، والله أعلم، إنه بعد سحق الانقلاب، أراد المشترون أسفاط الحلوى ترجيع ما اشتروه، ولكن أصحاب المحلات رفضوا ذلك، فعلق أحدهم ساخراً: اشتباكات بالأيدي في الضاحية الجنوبية وفي العاصمة دمشق بين المواطنين وأصحاب محلات الحلو على خلفية ممنوع ترجيع البقلاة.!!!.. "..

 

وبما أننا لا نزال نتحرك تحت عباءة " ليلة القبض على البسطار العسكري " فإن المشهد الدرامي تحول فجأة حين ظهر أردوغان عبر جهازٍ نقال، يدعو الشعب التركي للخروج إلى الشوارع لحماية الديمقراطية، وظننا أن أردوغان فعل ذلك كمجرد محاولة يائسة، ولكن المفاجأة العظيمة أن الشعب خرج إلى الشوارع وواجه آليات الانقلابيين وسدوا عليهم المنافذ والطرقات لمنعهم من التحرك والسيطرة على مؤسسات الدولة..

هنا أقف عند نقطة هامة جداً، وهي أن أردوغان توجه بندائه إلى الشعب، والشعب وحده، لحماية تركيا، ولم يعتمد كما هي العادة على المدفع والصاروخ لحماية حكمه وحكم حزبه.. وهذه مسألة ذات مغزى كبير، فكأن أردوغان يريد أن يقول: نحن جئنا بإرادة الشعب، وللشعب وحده الحق في الدفاع عن تركيا وعن نظام الحكم الديمقراطي..   

وأخيراً انتصر الشعب التركي على البسطار العسكري، دون الدخول في التفاصيل..

لكن أجمل ما حدث أن الشعب التركي الذي تربى على الديمقراطية الحقيقية طوال أكثر من خمسة عشر عاماً، لبى النداء، بكل فئاته من مؤيدين ومعارضين، وإسلاميين وعلمانيين، ونزلوا إلى الشوارع وواجهوا آليات الانقلابيين وأسلحتهم، وحاصروهم وسدوا عليهم المنافذ والطرقات، وضحى البعض منهم بحياتهم في سبيل أن تبقى راية الديمقراطية الحضارية عالية في سماء تركيا.. حتى أن الأحزاب المعارضة التي كان العداء السياسي على أشده بينها وبين حزب العدالة والتنمية، قد سارعت إلى التضامن مع اردوغان والوقوف ضد الانقلاب.. وبالمحصلة لم نشهد أية شخصية مدنية واحدة وقفت إلى الانقلابيين.. 

وهكذا كان الشعب التركي بطل ذلك الفيلم الدرامي الطويل..

والملاحظة الملفتة أن الأسلوب الحضاري والإنساني تجلى في التعامل مع الانقلابيين، حين رأينا على شاشات التلفزة عدة مشاهد لضباط معتقلين، وكل واحد منهم يمسك به اثنين من رجال الأمن، دون أن نشهد أية مظاهر تعنيف أو تأنيب أو ضرب بالأيدي أو ركل بالأرجل، وإنما كان التهذيب هو سيد الموقف.. وقد ظهر ذلك أكثر فأكثر في الفيديو الذي خرج فيه قائد إحدى الدبابات مستسلماً، فبدأ بعض الشباب الغاضب يرشقه بالحجارة وزجاجات البلاستيك، ومن حقهم ان يغضبوا فقد سالت دماء كثيرة بسبب دفاعهم عن ديمقراطية الوطن، لكن رجل الأمن القريب منه حضنه كما يحضن أخاه او صديقه، وحماه من غضبة أولئك الشباب.. وهنا لابد من المقارنة بين رجال الأمن التركي الذين تربوا على التعامل الإنساني في دولة ديمقراطية، وبين رجال الأمن في أي دولة عربية دكتاتورية، ولاسيما في سورية ومصر، حيث يموت عشرات الآلاف تحت التعذيب دون سبب أو تهمة..

هذه هي الثقافة الإنسانية التي تربى عليها عناصر الأمن التركي في مرحلة الديمقراطية الحضارية التي أرسى جذورها حزب العدالة والتنمية وعلى رأسه رجب طيب أردوغان..

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، لماذا حدثت محاولة الانقلاب الفاشلة في هذا الوقت بالذات، وليس قبل أو بعد ذلك.!!؟.

ربما التحليل الأقرب إلى الصحة، هو أن تركيا نتيجة وقوفها إلى جانب الشعب السوري، ابتلت بالكثير من الأعداء، من روسيا وإيران والنظام السوري ونظام العراق وأميركا والاتحاد الأوروبي وحتى بعض الدول العربية التي لا يحلو لها العيش إلا في خضم الفتن والمشاكل التي تزرعها في أرض " شقيقاتها العربيات..!! ".. كل هؤلاء بدأوا يحفرون في أساسات الدولة التركية.. حتى باتت مهددة في أمنها الوطني، وفي تمزيقها إلى عدة دويلات عرقية.. فداعش وحزب العمال الكردي يستهدفانها بالتفجيرات المتواصلة، وروسيا وإيران تتربصان بها، وأميركا لم تترك لها أية مساحة للتحرك من خلالها فيما يتعلق بالصراع السوري..

وحين أدرك الجميع أن " الطبخة نضجت " وحان الوقت المناسب للتحرك، أعطوا الإيعاز إلى عملائهم في الجيش التركي الذي يهوى الانقلابات عبر تاريخه الطويل، ثم حدثت المحاولة الفاشلة، ووقع المدبرون والمنفذون في شر أعمالهم..

وما يساند هذا التحليل هو الاتهام الموجه من قبل بعض المسؤولين الأتراك للإدارة الأميركية بأن لها ضلعاً  في تنفيذ هذه الحركة الانقلابية، كما اتهموا فتح الله غولن المقيم في أميركا بالتخطيط للانقلاب عبر جماعته المنتشرون في مؤسسات الجيش..   

بقي أن نقول إن زمن ما قبل ليلة الخامس عشر من تموز سيختلف كثيراً عما بعده، والانقلاب الفاشل سيؤدي إلى نتائج عميقة ستظهر على المدى القريب والبعيد، وهي نتائج فيما نرى ستكون لصالح أردوغان وتركيا الديمقراطية.. صحيح أن تركيا ستخرج منهكةً بعض الشيء بسبب التطهير الذي بدأ سريعاً في البيتين العسكري والقضائي، وهذا ما عبر عنه أردوغان حين قال: القوات المسلحة ستقوم بتطهير نفسها وإعادة بناء مؤسساتها ".. وإعادة بناء تلك المؤسسات وتمكينها يحتاج إلى بعض الوقت.. إنما ستخرج تركيا في النهاية أكثر قوة وأكثر عمقاً في مسيرتها الديمقراطية، وربما سيتم القضاء نهائياً على فكرة الانقلابات التي سادت طوال عشرات السنين، وربما ايضاً ستتراجع أهمية الرمز العلماني المتشدد، والذي يتجسد في استمرار صورة أتاتورك على جدران مؤسسات الدولة.. 

  

المصدر: شبكة شام الاخبارية الكاتب: عبد الرحمن عمار
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ