مؤتمر سوتشي و«السوريون» حصراً: ماذا بعد؟
مؤتمر سوتشي و«السوريون» حصراً: ماذا بعد؟
● مقالات رأي ٣ فبراير ٢٠١٨

مؤتمر سوتشي و«السوريون» حصراً: ماذا بعد؟

لم يكن ثمة بد من مشهد سوتشي لكي يكتمل سيناريو المسرحية الهزلية التي يضع الروس المسألة السورية في إطاره، تحت سمع وبصر النظامين الإقليمي والدولي، وبقبولهما.

هنالك تقزيمٌ لكل ما هو إنساني وأخلاقي في ما يحصل، إلى درجة تكاد تصبح الكتابة الجدّية فيها عن الموضوع، بغرض التحليل، عبثاً لا طائل من ورائه.

سمع المعنيون بالموضوع، من السوريين وغيرهم، الكم الهائل من الكوميديا السوداء التي سبقت ورافقت انعقاد المؤتمر، ورأوا بأم أعينهم تفاصيل الأحداث والتصريحات والمواقف السوريالية التي شكّلت وقائعه وأحداثه. أكثر من هذا، سيسيل حبرٌ كثير خلال الأيام المقبلة في معرض «تحليل» كل ما جرى وتفسير كل ما قيل.

من هنا، لن نكرر ما سبق أن رآه الناس وسمعوه، ولن ندخل في منافسة التحليلات لما حصل وسيحصل.

يكفينا تلخيص دلالات ما جرى من ممارسات، يُفترض أن تدخل في مفهوم «السياسة»، بعبارة لخص بها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، المعروف بصراحته، رأيه في السياسة قائلاً: «من المفترض في السياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في العالم، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك شبهاً كبيراً بينها وبين أقدم مهنة». ربما يرفض كثيرون هذا الرأي، وربما يجرح الكلام البعض، وصحيح أن بالإمكان الإشارة إلى الدلالات التي أرادها ريغان من عبارته بشكل آخر، أقل صراحة وأكثر تهذيباً. لكن الواقعية تفرض نفسها بقوةٍ هنا. والواقعية تلك تقول إن دلالات العبارة كانت ولا تزال وستبقى موجودة، بدرجة أو أخرى، ليس في الولايات المتحدة فقط، وإنما في كل مكان يضم ساسةً وسياسة في هذا العالم. وها هي سوتشي، بكل من وراءها، علناً أو سراً، تؤكد تلك الحقيقة بشكلٍ فاقع.

في ما عدا ذلك، لا يبدو عملياً سوى الحديث عما يمكن أن يفعله السوريون بقضيتهم بعد هذا المفصل الفارق. وهذا حديثٌ لا يجب أن يقتصر على قرارات ومخططاتٍ ورؤى تستوعب ما سيجري بعد اليوم وتتعامل معه، فهذا مهمٌ ومطلوب. لكن الأهم والأكثر إلحاحاً يدخل في جوهر ما يمكن أن نسميه «مراجعات» شاملة لم تعد الحركة في أي اتجاهٍ صحيح ممكنةً بغيابها.

ليس هذا مقام الدخول في مهاترات مع أي جهة، لكن المرحلة تتطلب درجة عالية من الشفافية والصراحة. والاستحقاقات المقبلة تتطلب الارتقاء إلى مستوى شعارات تمثيل الثورة التي ترفعها المعارضة بأطيافها السياسية والعسكرية العديدة اليوم.

لا مشاحة في الاعتراف بأن المعارضة السياسية السورية بجميع أطيافها ومكوناتها لم تكن مستعدةً لأداء مهمةٍ بحجم المهمة التي باتت، فجأةً، مسؤولةً عن أدائها. فكلنا يعلم طبيعة الظروف التي كانت تعمل فيها على مدى العقود الماضية. وثمة فارقٌ كبير بين القيام بدور «المعارض» على الطريقة التي كانت سائدةً في سورية ما قبل الثورة، ودور «الناشط» بعد انطلاقها، وبين دور القيادة السياسية لثورةٍ فرضت نفسها بتعقيدات قلما عرفها التاريخ.

ولا نبالغ إذا قلنا إن الدور الذي نتحدث عنه من أصعب الأدوار التي يجب أداؤها على مستوى العمل العام، ما يتطلب إدراك حقائق محددة.

فثمة تراكمٌ نظري وعلمي يتعلق بالثورات يمكن الاستفادة من معطياته، لكن الثورة ليست عملية هندسية محسوبة المقاييس، ولا مشروعاً تجارياً أو اقتصادياً يمكن تصميمه وتنفيذه وفق خطة موضوعة بإحكام.

والثورة لا تشبه أي ظاهرةٍ أخرى في حياة الناس. إذ لا تسري عليها العادات والأعراف والقوانين التي يتآلفون عليها في أيامهم العادية. وحين نتحدث عن الثورة السورية تحديداً فإننا نحاول ملامسة ظاهرةٍ جديدة كلياً، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار كل ما فيها من خصوصيات سياسية وثقافية واجتماعية وجغرافية.

من هنا، لا يكون معيباً إذا تواضعت المعارضة السورية واعترفت بصعوبة المهمة الملقاة على عاتقها. فهذا الاعتراف علامةٌ صحيةٌ يمكن أن تكون أول خطوةٍ فعلية في تشكيل قدرتها على أداء دورها المطلوب. لا حاجة للمكابرة والادّعاء في مقامٍ لا يحتاج لمثل هذه الممارسات. وسيكون الشعب السوري أول من يتفهّم هذه الحقيقة، ويحترم القائلين بها، ويعود لإعطائهم المشروعية المطلوبة.

ثمة حاجةٌ ملحةٌ اليوم لأن يغادر جميع الساسة المعارضين السوريين إقطاعياتهم و «كانتوناتهم» و «مساراتهم». فالسياسة بالتعريف السائد هي فنّ الممكن. والممكنُ في الواقع السياسي السوري المعاصر يفرض عليهم جميعاً الخروج من نفق المماحكات القاتلة المتعلقة بتمثيل السوريين وثورتهم، والتي تكاد تغرقهم وتُغرق الثورة إلى الأبد. يكفي مثالاً أن نستحضر الأزمة المقبلة التي يمكن أن تنتج عن قيام بعض من حضرَ سوتشي وانسحب منها بـ «تفويض» الوفد التركي لكي يكون «حاملاً مطالبنا ساعياً لتحقيقها»، بناءً على «تمثيل قوى الثورة والمعارضة».

لا توجد اليوم جهة يمكن أن تدّعي احتكار التمثيل المذكور بأي درجةٍ من الدرجات.

ليس من طبيعة الدنيا الكمال، ولم يقل أحدٌ إن مشروع التمثيل السياسي للثورة السورية سيكون مشروعاً كامل الأوصاف. لكن الموقف الطبيعي من مثل هذا الوضع يتمثل بالمساهمة الفعالة والعملية في استكمال المشروع، لكي يصبح قادراً على تحقيق حد أدنى لهدف توحيد المعارضة وخدمة الثورة داخلياً وخارجياً.

لا توجد ملائكةٌ تمشي على الأرض في هذه الدنيا، فلا تخطئ في حساب أو تحتاج الى مراجعة موقف أو إعادة النظر في رؤيةٍ محددة أو سياسةٍ بعينها. لا يوجد هذا في العالم من حولنا، ولا في منطقتنا العربية، ولا في سورية، ولا في أجسام المعارضة بالتأكيد، يسري هذا على الأفراد والجماعات والشعوب كما يسري على الدول والحكومات. فنحن بشكلٍ عام نعيش في عالمٍ معقّد يتميز بمتغيّراته المتسارعة التي لا يكاد يستطيع أحدٌ ملاحقتَها وأخذها بالاعتبار في حساباته بشكلٍ كامل. ونحن، كسوريين تحديداً، نعيش ظاهرةً ربما كان تكرارها في التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بالصورة التي نراها، من الأمور النادرة في حياة البشر.

من الطبيعي إذاً لأي جماعة أو فرد أو هيئةٍ أن تخطئ أو يخطئ في الحسابات أو في السياسات أو في المواقف، أو في ذلك كله. وهذا يصدقُ على أجسام المعارضة في زمننا الراهن كما لا يصدق على جهةٍ أخرى مسؤولةٍ أمام شعبها وبلادها.

هذه حقائقُ تعرفها جميع الأطراف، ومن مصلحة السوريين جميعاً أن يبني عليها أصحابُ العلاقة داخل أجسام المعارضة وخارجها، أساساً لنقلةٍ جديدة في عملهم خلال المرحلة المقبلة.

هذا ليس واجباً سياسياً وأخلاقياً فقط، وإنما هو أيضاً دليل نضجٍ سياسيٍ وثقافيٍ للسوريين، خاصةً لمن تصدى لمواقع المسؤولية منهم.

بكلام آخر، ليست المشكلة أن نخطئ في الحسابات أو السياسات أو المواقف. وإنما تكمن المشكلة في الإصرار على تجنب أي مراجعة، والوقوع في عقلية المكابرة والعناد التي توحي بلسان الحال بأننا قومٌ لا نخطئ، بغض النظر عن أي شعارات نطلقها بلسان المقال. ذلك أن الوقوع في هذا الفخ هو الخطوة الأولى في سلسةٍ من الأخطاء ليس لها نهاية. هذا قانون من قوانين الاجتماع البشري يسري على السوريين كما يسري على العالم أجمع.

اجتهدَ البعضُ من أطياف المعارضة «الحقيقية»، وقرر حضور سوتشي. واجتهد البعض الآخر وقرر مقاطعته. بنى الطرفان اجتهادهما، علناً في الأقل، على القاعدة نفسها: إن القرار المُتخذ كان خطوة على طريقٍ طويل لمحاولة تحقيق أهداف الثورة.

لا مجال هنا للخوض في النيات، فهذا ترفٌ لا تحتمله المرحلة الراهنة، ولا يحتمله بالتأكيد المستقبل المقبل. خاصةً في ظل المشهد الذي رآه الجميع خلال جولات جنيف وأستانة، وأخيراً سوتشي. وفي ظل الواقع الذي نتج عنها.

ثمة حاجةٌ لدرجةٍ عاليةٍ جداً من الواقعية المسؤولة في هذا المقام. وهي تنبعُ من قراءةٍ دقيقةٍ لما حصلَ كما حصل، وليس كما توقع البعض حصوله أو تمنى البعضُ الآخر حصوله.

لا مجال هنا لإصرار المعارضين السوريين على الحياة في الأوهام أو التفكير الرغائبي أو التفسيرات الخاصة للحدث. فهذا أيضاً نوعٌ آخر من الترف السياسي لا يحتمله المقام.

من هنا، قد يكون مطلوباً زيادة جرعة الرقابة الشعبية الخارجية على أجسام المعارضة بأشكال مختلفة. ليس فقط من قبل الإعلاميين والمثقفين والنشطاء والساسة خارجها، وإنما أيضاً من السوريين جميعاً، لأنهم أصحاب الحق قبل غيرهم في طرح الأسئلة والحصول على الإجابات.

فالإنسان العادي هو أول من يتأثر بالسلبيات والآلام والكوارث التي تنجم عن الخطأ في الحسابات وفي السياسات. من هنا، يبقى هو صاحب الحق الأول في أن يكون له رأي في الموضوع، وفي أن تُفتح له مداخل وأبواب طرح ذلك الرأي عبر القنوات والمنابر الإعلامية والسياسية والثقافية. فالإنسان الذي لا يُمنح ذلك الحق لن يشعر يوماً بالانتماء والولاء الحقيقيين مهما صرّح وتغنّى بعكسِ ذلك. لأنه سيدرك ببساطة في أوقات الشدّة بأنه مدعوٌ ليدفع ثمن خطأ لم يكن سبباً فيه. وبأن وجوده في الساحة إنما يُعتبر «تكملة عدد» وليس وجودَ مواطنةٍ حقيقية بكل ما تقتضيه من حقوق وواجبات.

«السياسة أهم بكثير من أن تُترك للساسة وحدهم». هكذا تؤكد المقولة الشهيرة.

ولن تعدمَ ثورةٌ أظهرت إبداعَ أهلها في كثيرٍ من المجالات القدرةَ على ابتكار إطارٍ لرقابةٍ شعبيةٍ عامة على أجسام المعارضة تُصحح مسارها، لتؤدي دورها المطلوب، ولا تُصبح لعنةً على البلاد وأهلها وثورتهم نهاية المطاف.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: وائل مرزا
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ