مغامرة قيصر من أجل النفوذ
مغامرة قيصر من أجل النفوذ
● مقالات رأي ١٢ أكتوبر ٢٠١٥

مغامرة قيصر من أجل النفوذ

بغض النظر عن الأسباب المباشرة التي حملت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على التدخل الدموي الصاعق في سورية، وفي مقدمتها الخناق السياسي والاقتصادي الذي تتعرّض له روسيا منذ الحرب الأوكرانية، ويريد الخروج منها، مثلما خرج سابقاً عندما اعتلى السلطة، حين شعر أن مقاليد الأمور ليست في قبضته، فبادر فوراً إلى الحرب في الشيشان، ويومها حوّل الرأي العام الروسي من المعاناة الداخلية إلى الحرب، وتتبع الدبابات والطائرات والقتال من بيت إلى بيت.
بغض النظر عن الدوافع الداخلية لشنه حرباً كبيرة خارج حدود الاتحاد السوفييتي السابق، والتي نكرّر أنها أزمة خانقة، مؤشراتها تراجع سعر صرف الروبل، وانهيار أسعار النفط، وتهديدات واشنطن بكشف فساد الدائرة المحيطة به. يريد بوتين، الوحش المجروح والمحاصر، استغلال التهديد الأميركي الأجوف والتردد الأوروبي والعربي الفاضح، لاستعادة المجد الروسي الضائع، فاندفع يجرّب اختبار القوة مع واشنطن وتركيا، بعد أن جرّب اختبار القوة في مجلس الأمن، وفي اعتراض الدبلوماسية الأميركية مراراً.
يجرّب بوتين حالياً اختبار القوة في الجو، وربما سيجرّبها على الأرض، وهو يأمل تحقيق طموحاته التي تتمركز حول الاعتراف بمصالح روسيا الحيوية والنظام العالمي الجديد الذي يخدم "الأمة الروسية العظيمة". يعتقد القيصر أن بلاده سيكون لها كلمة في منطقة الشرق الأوسط، إذا أحرز موقعاً مؤثراً في الأزمة السورية. وهو يجدد أطماع أجداده القياصرة في بلاد الشام، والتي لم تنقطع منذ طلب السلطان العثماني، محمود الثاني، حماية من روسيا، وأبرم معاهدة معها، تتعهد فيها بالدفاع عن الدولة العثمانية أمام الهجمات المصرية، وهو ادعاء بوتين في الحالة السورية. ولم تخدم نتائج الحماية الروسية الدولة العثمانية، فقد انهار الجيش العثماني أمام الجيش المصري في معركة نصيبين عام 1839، لأن هدف الروس الحقيقي لم يكن حمايتها، وإنما أطماعهم الخاصة، ولم تهزم الدولة العثمانية المصريين، إلا بمساعدة البوارج الحربية، البرتغالية والنمساوية.
وفي الأربعينيات من القرن التاسع عشر، تدخلت روسيا، مستغلة الفتن الطائفية في بلاد الشام، وخصوصاً في لبنان، بحجة دعم الأرثوذكس، لكنه تدخل لم يكن إلا من أجل تقوية النفوذ الروسي في شرق المتوسط. ومرة أخرى، محاولة روسية لدخول بلاد الشام، حيث أبدى عام 1854 القيصر الروسي، نيقولا الأول، رغبته في اقتسام الدولة العثمانية، فعرض على بريطانيا فكرة تقاسم الدولة العثمانية بينهما، إلا أن الأخيرة رفضت، فحاول إغراء فرنسا، فرفضت أيضا.
"يعتقد بوتين، اليوم، أن هناك إعادة لتقسيم الشرق الأوسط، وأنه آن الأوان لتحصل روسيا على ما لم تستطع الحصول عليه سابقاً، حين حالت صلابة المفاوضيْن، الفرنسي والإنجليزي، والثورة البلشفية، دون تحقيق أحلام روسيا"

وكانت روسيا دائماً تهدد الدولة العثمانية، بحجة حماية المسيحيين الأرثوذكس، حتى جاء يوم ونفذت تهديدها، وأعلنت الحرب فجأة على العثمانيين، لكن الغطرسة الروسية باءت بالفشل، بسبب تدخل بريطانيا وفرنسا، وأغارت أساطيلهما على الأساطيل الروسية في شواطئ جزيرة القرم، وعلى موانئ روسيا في البحر الأسود، ولتنتهي هذه المغامرة الروسية بعقد معاهدة سلام باريس.
بقيت عند الروس غصّة أخرى، لم يستطيعوا حيالها فعل شيء، في أثناء تدخلهم، عندما تم نقل سكان المناطق الأرمنية من ولايات شرق تركيا وكيليكيا والأناضول الغربية إلى بلاد الشام، حيث لم يُفض هذا التدخل سوى عن قتل سكانٍ مسلمين في الأناضول الشرقية، على يد الأرمن المتطوعين في الجيش الروسي.
أكثر ما كان واضحاً في الأطماع الروسية في بلاد الشام ظهر عندما زار البريطاني سايكس والفرنسي بيكو سان بطرسبورغ عام 1916، للحصول على موافقة روسيا على اتفاقية تقاسم بلاد الشام بينهما، فاشترطت لذلك حصولها على ولايات أرضروم و طرابزون ووان ويتيليس، أي الولايات الأرمنية التركية، وعلى شمال كردستان، من موش وزعرت وحتى الحدود الإيرانية. واشترطت روسيا، وهذا هو المهم، حقها بالدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الشرق الأوسط. ومن هنا، يمكن فهم موقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في دعمها موسكو لشن غارات جوية في سورية، ووصف ذلك "حرباً مقدسة".
يعتقد بوتين، اليوم، أن هناك إعادة لتقسيم الشرق الأوسط، وأنه آن الأوان لتحصل روسيا على ما لم تستطع الحصول عليه سابقاً، حين حالت صلابة المفاوضيْن، الفرنسي والإنجليزي، والثورة البلشفية، دون تحقيق أحلام روسيا. الفرصة مواتية، اليوم، حيث الحجج جاهزة، وحيث التردد الغربي والعجز العربي. وسواء كانت مغامرة بوتين في سورية لاستعراض عضلات روسيا في فضاءٍ لا يهم الدول الأخرى، وفي ظروفٍ مواتية، وبتكاليف زهيدة، كما تكتب الصحف الروسية، حيث القوات الجوية الروسية تستخدم ذخائر قديمة تعود إلى نهاية السبعينيات، وأوشكت صلاحيتها على الانتهاء، أو كانت هذه المغامرة محسوبة، من أجل أن يكون لروسيا موقع قدم، وإمكانية لفرض إرادتها ومجدها، وبالتالي، المشاركة في إعادة اقتسام الشرق الأوسط، فإنها مغامرة بكل معنى الكلمة، مشابهة، أو مختلفة عن مغامرتها الفاشلة في أفغانستان.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: تيسير الرداوي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ