مفارقة وطنية للأكراد السوريين
مفارقة وطنية للأكراد السوريين
● مقالات رأي ٦ مارس ٢٠١٥

مفارقة وطنية للأكراد السوريين

يبدو لافتاً اليوم، وعلى رغم صعود التطرف السياسي بمختلف أشكاله الدينية والدنيوية، تراجع نزعة الاستقلال القومي عند أكراد سورية لحساب الروح الوطنية، وتقدم خطاب يجاهر بانتمائهم الوطني وبقلق كبير على مصير الاجتماع السوري. ولا يغير هذا الأمر بل يؤكده تشديد مطالبتهم بحق الإدارة الذاتية، وبوضع دستور ديموقراطي يكرس الكرد كقومية ثانية، ثم سرعة تطويق الاندفاعات القومية الثأرية التي تخللت الصراع الدائر، وكأن هؤلاء الانفصاليين، الذين طالما كان يشك بولائهم لوطنهم، يريدون أن يثبتوا عملياً أنهم لن ينتهزوا الفرصة التي يوفرها الاضطراب الراهن لدفع هدفهم القومي إلى حده الأقصى، الأمر الذي أثار في تفسيره حزمة من الاجتهادات.

ثمة من يعتبر الموقف أحد تداعيات الانتصار النسبي الذي تحقق في عين العرب (كوباني) ضد تنظيم داعش، إن لجهة انكشاف حدود القدرة الذاتية الكردية على تحقيق مطامحها القومية إن لم تأخذ في الاعتبار الدعم الدولي والأفق المتاح إقليمياً، وإن لجهة منح الأكراد سمعة في المجتمع السوري كانوا بحاجة إليها للتخلص من عقدة المظلومية ولاستعادة الثقة بأنفسهم وبدور يمكن أن يلعبوه لإنقاذ الوطن من المسار المأسوي الذي وضع فيه، متوسلين اعترافاً شعبياً وسياسياً، تكرس موضوعياً، بحقوقهم القومية، وقربهم من آمال غالبية السوريين التي تجمع بين تغيير واقع الاستبداد القائم ورفض الجماعات الإسلاموية كبديل، وأيضاً من تاريخٍ يضج بأسماء كردية تبوأت النضال من أجل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، وربما من حرج أخلاقي يعيب فكرة الخلاص الذاتي، كجماعة قومية، تترك مجتمعاً، احتضنها وخفف الظلم عنها، وحيداً في محنته.

وهناك من يقلل من مبدئية هذا التوجه ويعتبره براغماتياً وطارئاً فرضته عوامل لا علاقة لها بالقيم الوطنية والجذور الفكرية للأكراد السوريين، إما لحسابات تتعلق بالموقف التركي وقدرته على سحق كيان قومي معادٍ يمتد على شريط حدودي يفتقد العمق الجغرافي ومخترق بجيوب عربية وتحيط به قوات تنظيم داعش، وإذا أضفنا ضعف القدرة الاقتصادية للوليد القومي وتحكم الجارة التركية به، كأهم معبر له إلى العالم، وكمصدر وحيد لضمان حاجته من المياه، وأضفنا أيضاً طابع الوجود الكردي في سورية الذي لا يشكل موقعاً مركزياً في النضال القومي، ويستحيل عليه أن يزايد على موقف أقرانه في تركيا، الذين، وبرغم ثقلهم السياسي والاجتماعي، طووا صفحة الاستقلال واكتفوا بمطلب الحكم الذاتي في إطار الدولة التركية، نقف عند أهم الأسباب التي تشجع أكراد سورية على تخفيف نزعتهم الاستقلالية والالتفات لمعالجة مظالمهم القومية في الإطار الوطني الديموقراطي. وإما لأن ليس هناك ما يغري عملياً في الدولة القومية المستقلة، والأمر لا يتعلق فقط بما يكابده النموذج السياسي الكردي في العراق بقدر ما يتعلق بتجربة الإدارة الذاتية التي قادها الحزب الديموقراطي الكردي أو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، حيث تحول حلم الأكراد بكيان يخلصهم من تشتتهم ومن اضطهاد الأقوام الأخرى، إلى معاناة جديدة من حكم متسلط يحاول التفرد بالقوة والاستئثار بكل شيء، لكن هذه المرة تحت غطاء قومي، ويزيد الأمر وضوحاً تنامي ما يسمى الإسلام الكردي وتمدد تنظيم داعش وما يشكلانه من تهديد إنساني، الأمر الذي يعطي أهمية مضافة للرابطة الوطنية، كطريق أجدى في مواجهتهما.

في المقابل ثمة من لا يعتبر الموقف الوطني لأكراد سورية أمراً جديداً ويرجعه إلى خصوصيتهم التكوينية وميلهم تاريخياً نحو تغليب وطنيتهم على حساب الهم القومي، حيث تبنت غالبية تعبيراتهم السياسية شعارات تؤكد على الانتماء السوري وقرنت إنهاء الظلم والتمييز بضمان حقوقها القومية في دولة المواطنة الديموقراطية، وبعبارة أخرى، لم يطرح حل القضية الكردية في سورية بمعزل عن المعاناة المشتركة لعموم السوريين، بل ظلت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمجمل المعضلات السياسية العامة لدرجة أنها أصبحت قضية وطنية بامتياز. ونضيف أن الأكراد السوريين كانوا أكثر المعنيين، بحكم وزنهم وموقعهم، بتمثل دروس هزائم شعبهم والتجارب التاريخية التي مر بها، ما جعلهم أشد المدافعين عن أولوية الانتصار للوطن الديموقراطي التعددي كمدخل لحل معضلتهم القومية ولقطع الطريق على أطراف دولية وإقليمية تستخدم المسألة الكردية وسيلة أو ورقة ضغط في صراعاتها وتسوياتها.

واستدراكاً، ربما يعتقد البعض أن ثمة مبالغة مقصودة في إظهار تقدم الروح الوطنية للأكراد السوريين بغرض مغازلتهم واستمالتهم والاتكاء عليهم كطرف واعد ومقبول لملء فراغ سياسي. وإذا افترضنا جدلاً صحة ذلك، وهو ليس قائماً، فما الضير من التعويل على هذه الكتلة، في هذا الوقت العصيب بالذات، كرافعة من الروافع القادرة على حماية الوحدة الوطنية وانتشال البلاد من محنتها الدموية؟! وأين الخطأ في التشجيع على دور وطني للأكراد يحدث نقلة نوعية ليس فقط في ملف قضيتهم القومية وإنما أيضاً في جهود إنقاذ بلدهم ومستقبل جميع السوريين؟!.

وأيضاً نسأل، ألا يشكل تراجع الأكراد عن تطرفهم القومي وتقدم همومهم الوطنية مثالاً يحتذى للرد على طبيعة الصراع السوري وما يولده من عنف وتعصب وشروخ وتخندقات؟ وألا تقتضي المصلحة الجمعية من السوريين على مختلف فئاتهم وأطيافهم، تفهم التحولات والتغيرات التي يفرزها صراع دامٍ ومزمن، والمبادرة لدعم وطنية كردية تعزز فرص المعالجة السياسية وعملية الانتقال الشاقة إلى دولة مدنية تضمن حقوق الجميع بدون تمييز أو تفضيل قومي أو ديني أو مذهبي؟!.

ربما لا يزال في الأفق ما يشجع الرهان على ذخيرة السوريين في التسامح والتعايش وحماية هويتهم الوطنية ربطاً بحقيقة تاريخية يصعب تجاوزها في خصوصية بلادنا بتعددية مكوناتها الدينية والقومية، تتمثل، باستحالة عيش هذه المكونات كجماعات منفصلة آمنة مستقرة وقادرة على النماء والتطور، وبأن الخيار الوطني، هو أشبه بخيار إجباري، للحفاظ على الذات، وبناء مجتمع ديموقراطي مستقر يؤمن الجميع به.

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: أكرم البني
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ