من القصير إلى داريا.. إبادة شعب ودمار وطن
من القصير إلى داريا.. إبادة شعب ودمار وطن
● مقالات رأي ٢٩ أغسطس ٢٠١٦

من القصير إلى داريا.. إبادة شعب ودمار وطن

في الخمسينات والستينات من القرن الماضي اعتاد الشعراء بشكل خاص على استخدام مفردات القطار وصفيره ومحطات الانتظار كرموز دالة على الرحيل عن أرض الوطن إلى بلاد المنافي والغربة والشتات والضياع. 

هذه الرموز الشعرية ذكرتني اليوم بأهل داريا أو ما بقي منهم في داريا. إنهم الآن يتوقفون على رصيف المحطات بانتظار قدوم القطارات التي تنشط الأمم المتحدة لإحضارها من أجل تفريغ داريا من أهاليها، فهذه " الأمم " لم تكن في يوم من الأيام وسيطاً نزيهاً بين الجلاد والضحية، بل كانت عميلاً، هدفه المساهمة والمساعدة في عملية التطهير وتغيير البنية السكانية في سورية.
ها هي القطارات قد جاءت، فإلى أين ستذهب بكم أيها الأحبة.!؟. هل إلى صمود جديد، أم إلى غربة قاتلة، أم إلى شتات بعده شتات.!؟.
قيل عن داريا إنها أيقونة الثورة، وعنوان الصمود، والروح الصابرة، والطفلة التي أهملها أهلها، والمدينة التي أدار الجميع ظهورهم لها، وتركوها بين أنياب الوحوش الكاسرة.
ماذا يمكن أن يقال عن فصائل المقاتلين في الغوطة الشرقية، من جيش الإسلام إلى فيلق الرحمن إلى جيش الفسطاط.!؟. ولماذا لم ينجدوا داريا منذ سنوات عدة.!؟.
الجواب واضح: إنهم مشغولون بقتال بعضهم بعضاً، وكل واحد منهم يشتغل على صناعة إمارة جديدة يكون أساسَها طغيانٌ جديد ينافس طغيان الأسد، بل ويتفوّق عليه، وفي النتيجة ستكون نهايتهم كنهاية داريا.
وماذا يمكن أن يقال عن الجبهة الجنوبية.!؟. لماذا لم تتحرك وتنقذ داريا.!؟.
الجواب أيضاً واضح وصريح: إنهم لا يخرجون عن طوع غرفة الموك، وغرفة الموك لا تريد لداريا أن تبقى صامدة، بل تريد أن تنهار وتعود إلى حضن الوطن.!!.
ولكن مهلاً.. هناك من يقول إن الجبهة الجنوبية تحركت لنصرة أهل داريا بعد أن غادروا مدينتهم، في طريقهم إلى الشمال، وهذا التحرك ذكره صديقي أبو معن في منشور كتبه على صفحته، وأنا هنا أثبت بعض ما جاء في المنشور المؤلم الساخر. يقول أبو معن: ما جرى لداريا ذكرني ببيت عتابا كنت أسمعه وأنا طفل
صديقي الما ينفعني وانا حي
شلي فيه عـنـد ردّات التـراب
ويتابع أبو معن: عادة عندنا نحن العربان نطلق كام رصاصة عند الفرح وأيضا نطلقها عند الموت. اليوم، الجبهة الجنوبية أطلقت كام فشكة من أجل وفاة داريا، فهل هو زعل على داريا أم فرح لوفاتها.!؟. ".
إنها حقاً سخرية مؤلمة وجارحة، وصرخة حادة في وجوه أولئك المتخاذلين، ممن يُطلق عليهم جيوش الغوطة الشرقية أو فصائل الموك.
داريا.. لقد فتحتِ في قلبي جرحاً هو في الأصل لا يزال مفتوحاً منذ عام 2013، فأختك الأولى سارت على طريق السقوط في 4 حزيران من ذلك العام 2013.
وأختك يا داريا هي مدينتي القصير، فهل تذكرين مدينة القصير يا داريا.!؟.
لو أردنا أن نضع نقطة واحدة على حرف واحد من كلمة واحدة مما جرى لكما، لقلت إن قواسم مشتركة تتلاقى بينكما، كما تتلاقى الأوردة الدموية في البدن، فكلاكما وقف شوكة في حلق سلطة الأسد، واستعصت عدة سنوات على طموحات مناصريه من إيران إلى حزب الله.
وكلاكما كنتما مستهدفتين وجودياً ومذهبياً.. نعم وجودياً ومذهبياً، فحزب الله كان يضع عينه على القصير، لتكون له القاعدة المتقدمة والممر الدموي، بحيث يرسل قتلَتَه من لبنان، فيمرون عبرها إلى حمص وحلب، وحتى دمشق دفاعاً عن السيدة زينب.!!!. ثم يعود الكثيرون منهم قتلى وجرحى ومتمارضين، فيعبرون أرض القصير باتجاه لبنان. ألم أقل لكم كانت القصير ولا تزال هي الممر الدموي لهم وعليهم.!!.
أما أنت يا داريا، فكنت أيضاً مستهدفة وجودياً ومذهبياً، مثلما هو حي الوعر مرشح للاستهداف، فإيران وضعت عينها الصفوية على المواقع الأكثر أهمية في الوطن السوري لتغيير بنيته السكانية، وكانت داريا على رأس هذه المواقع. ألم يسوّقوا أن فيها مقام السيدة سكينة بنت الحسين.!؟، وأن دريد بن رفت الأسد قرر بعد تحرير المقام أن يتوجه إلى هناك ليصلي قربه ركتين تقرباً لله تعالى.!!؟.
لهذه الأسباب وغيرها استهدفوا القصير وداريا بدمار ما بعده دمار، حتى أن ما سقط عليهما من قذائف متنوعة من العيار الثقيل يعادل أكثر من قنبلة نووية، فقبل سقوط القصير بعدة أيام قدرتُ ما سقط عليها في يوم واحد فقط بأكثر من عشرين الف قذيفة، ففي كل ثانية، وليس في كل دقيقة، كانت تسقط قذيفتان أو ثلاث، ومنها الصواريخ العابرة للمحافظات، وظلت الحال هكذا طوال الليل والنهار.. وهكذا فعلوا بأختها داريا أيضاً.
إلا أن كلتا المدينتين عانت من إهمال الأقربين والأبعدين على حدّ سواء، مع فارق بسيط، فالقصير رفدها في الوقت الضائع بعض المقاتلين من حلب ودير الزور، وعلى رأسهم عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد يرحمه الله، والعقيد عبد الجبار العكيدي، غفر الله له على ما فعل، حين وقف إلى جانب ميليشيا صالح مسلم في معركة عين العرب، وهي ميليشيا عرقية تسعى لإقامة كيان كردي انفصالي في الشمال السوري.
والخلاصة أن القصير وداريا صمدتا وصبرتا وضحتا، وإن كانت نسبة الصمود والصبر في داريا أكبر مما كانت في القصير، والسبب يعود إلى أن ثوار داريا كانوا تحت قيادة واحدة، بينما كان ثوار القصير تحت عدة قيادات متفرقة متنافرة، وهذه حقيقة لا يجب نكرانها.
ثم جاء ما ليس منه مفر، إما الانسحاب أو الإبادة التامة، وهما أمران أحلاهما مرّ.
نظرت القصير إلى الكيفية التي تتناسب مع واقعها الميداني، فاختارت عدم التفاوض إلا على خروج الأطفال والنساء، أما الرجال والثوار والجرحى فاختاروا المرور من بين براثن الموت سيراً على الأقدام في أرض شديدة الوعورة لمسافة عشرين أو ثلاثين كيلو متراً، ووابل الرصاص والقذائف تلاحق الجميع، حتى استشهد العشرات، بل المئات منا، ونحن نمر من مكان أسميناه " فتحة الموت " واقع بين حاجزين عسكريين، وكنت أنا الكبير في السن واحداً من العابرين، وقد كتبت سيرة ما جرى من أهوال في كتاب أسميته " ملحمة الموت والحياة ".
أما داريا فقد اختارت الكيفية التي فُرضت عليها، فبعد أن صمدت لعدة سنوات ذلك الصمود الأسطوري، وبعد أن بلغت القلوب الحناجر، ونضبت الآمال، وانغلقت الدائرة، ولم يعد هناك من مسلك للخروج، لجأ ثوار داريا وما تبقّى من أهلها إلى التفاوض مع أشرس عدو في التاريخ، وهو تفاوض يضع داريا في موقع الندّيّة وليس في موقع الاستسلام.
ويكفي أن نقول إن داريا تقع جغرافياً في حلق سلطة الأسد، ومع ذلك فمن تبقى من اهلها، ومن بينهم نحو ألف أو لنقل ألفا مقاتل ديراني صمدوا عدة سنوات أمام ما يسمى الجيش السوري من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وعدة ألوية عسكرية أخرى وآلاف الشبيحة، إضافة إلى ميليشيات الحرس الإيراني ومعها ميليشيا حزب الله، ثم من بعد ذلك الطيران الروسي ومستشاريه العسكريين. إنه فعلاً صمود أسطوري، فهنيئاً لك على صمودك يا داريا.
........................................
وأخيراً يا داريا، أتذكر أبو راتب، وأنا في وهدة المأساة. هل تعرفين أبو راتب يا داريا.!؟. هو من أهاليك، إنسان شعبي، بسيط، طيب، يلبس الزي التقليدي؛ الشروال والصدرية، ويجر حماره المحمل بأنواع شتى من الخضروات، أطلب تجد، سبانخ، بقدونس، لِفْت، شمندر أحمر، طرخون، بصل أخضر، نعنع، باذنجان، بندورة، فليفلة، ملوخية، وغير ذلك.
كنا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي نسكن في حي الميدان قرب سكة القطار جنوبي مستشفى المجتهد، وحين يأتي أبو راتب إلى الحارة ينادي: يا أخضر يا ريان، فتسارع نسوان الحارة وتتحلق حوله، وهنّ يفحصنَ خُضْرة أبو راتب بالأعين والأصابع.
ويحدث أن تمزح إحداهن معه، وتتهم خضرواته بأنها مسقيّة بمياه الصرف الصحي، فيرد عليها فوراً وبصوته الأجش وعفويته المعهودة: الله وكيلك يا أختي، الخُضْرة من أرضي ولا أسقيها إلا بمية بير صافية زلال ".
نعم يا داريا، مياه آبارك صافية زلال، وأرضك طيبة، وخضرواتك نقية، وأنت تجمعين بين الصفاء والخصوبة والنقاء، وتضيفين إلى كل ذلك الشجاعةَ النادرة.
أما العنب الديراني، فيا عيني على العنب الديراني، لاسيما إذا كان من عرائش أبو راتب.
مرة طلبت منه عُودين لأغرسهما في داري في القصير، فأحضر لي رزمة عيدان محترمة. أخذتها وشددت الرحال إلى بلدتي، وفي أرض الدار زرعت عودين، وأعطيت الباقي لبعض أقاربي وأصدقائي، وبعد سنوات قليلة أصبحت القصير وداريا متلاحمتين عبر عرائش العنب، فالأصل من داريا والفرع في القصير، وحين يأتيني ضيوف، أقدم لهم صينية العنب، وأقول لهم هذا عنب ديراني ــ قصيراوي، هلمّوا.
آآآآه.. وبعد نحو أربعين سنة، تلاحمت داريا والقصير مرة أخرى، ولكن هذه المرة عبر استهدافهما بالقتل والتدمير من أعداء حاقدين، فاستشهد الآلاف من المدينتين، وطُرد من تبقى من الأهالي في تطهير عرقي ومذهبي لم ولن يشهد التاريخ مثيلاً له من قبل ومن بعد.
فهل يعود أهل القصير إلى القصير، وأهل داريا إلى داريا.!؟.
الأحداث التي تزداد تشابكاً وتعقيداً، تجعلنا نقول: الله أعلم.

 

المصدر: شبكة شام الاخبارية الكاتب: عبد الرحمن عمار
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ