مي سكاف... سلامٌ عليك في الثائرين
مي سكاف... سلامٌ عليك في الثائرين
● مقالات رأي ٦ أغسطس ٢٠١٨

مي سكاف... سلامٌ عليك في الثائرين

 على حين كرب وأسى وغصة ماتت مي سكاف، وانتقل ذلك المزيج من الموهبة، والتوق، والإيمان، وتلك العصارة من الإقدام، والنقاء، والشغف إلى اللانهائي.

كان لها تاريخان ناصعان: تاريخ الفن، وتاريخ الثورة. وكان الجمع بينهما يعني تاريخ الإنسان، بأل العهد، وأل الكمال. أي: تاريخ الإنسان المرجوّ المنشود.

خرجتْ في المظاهرات الأولى يوم كان المتظاهرون يحملون الورد! وينادون ملء الحناجر: «واحد. واحد. واحد... الشعب السوري واحد»، ويوم كانوا يكتبون يافطات: «نعم للسلمية! لا للطائفية»! و «ثورة شعبية. لا حرب أهلية»! و «ثورة لكل السوريين»! و «أنا سوري وبدي حرية... والله سلمية»!

وكم خاف النظام منها ومن رفاقها! وكم راعه أن يكون في صفوف الثورة من أمثالها! فكلُّ كلمة من كلماتها كانت قذيفةً تدك صرح كذبه القائم على التزوير القائل إن ما يحدث ليس سوى مؤامرة حيكت في خارج البلاد، وكلُّ موقف من مواقفها كان صاروخاً يقوّض أساس بنيان سرديته المستند إلى الادعاء بأنّ الإسلاميين يحرّكون الغوغاء والأوباش، ويشترون ذمة كل فرد منهم وضميره ووطنيته بسندويشة فلافل و 500 ل. س.

وقفت مي مع رفاقها المثقفين والفنانين في وسط دمشق غير وجلين ولا هيّابين، ليعلنوا أنهم الشعب، وأنهم الثورة، وأنهم مع الشعب، وأنهم مع الثورة! وهذا ما لم يغفره النظام لها ولا لرفاقها. ولولا تخفِّيها وفرارها لكان الإخفاء القسري، والقتل العمد مصيرها ومآلها.

ووقّعت مع زملائها على «بيان الحليب» في عام 2011، وطالبت الأسد ونظامه وجيشه برفع الحصار المضروب على درعا، والسماح بإدخال الحليب إلى الرضّع، والغذاء للأطفال! وحُقَّ لنظام الأسد عندئذٍ أن يعتقلها، ولأصدقائها المؤيدين أن يقاطعوها، ولمديرية الهجرة والجوازات أن تمنع سفرها، ولفروع الأمن الأخطبوطية أن ترسل لها التهديد يقفوه التهديد، وللمخابرات أن تزوِّد قطعان الشبيحة التافهين برقم هاتفها لتتوالى بذاءاتهم على مدار أربع وعشرين ساعة، ولأيام عدة:

ــ «ألو! بدّك حليب»؟!

ــ «ألو! بدّك حليب»؟!

وتخبرنا مي عن تلك الفترة: «كان الحوار ملجأهم الكاذب، ورصاصهم أسلوبهم، وبذاءتهم حقيقتهم»!

لم تكن مي راديكالية على رغم صلابتها، ولم تكن حاقدة على رغم مرارة كل ما مرّ من فظائع أمامها، ولم تنادِ بإسقاط بشار الأسد في الوهلة الأولى، ولكن كان هنالك حدٌّ لا يمكن تجاوزه، وعتبة لا يجوز الالتفاف حولها. فيوم سوّغ النظام تمثيله بجثة الطفل حمزة الخطيب، وادّعى أنّه كان يغتصب نساء الضباط، ويوم مرت الجريمة أمام ناظريه بلا محاسبة ولا معاقبة، أدركت مي إدراكاً نهائياً أن الجريمة هي هيولى النظام، وأن العنف هو صورته، وعرفت ساعتئذٍ طريقها، وحدّدت بدِقّة مطالبها (عندما يدافع نظام عن قتله لطفل بأن ينعته بمغتصب نساء كي يداري قتله والتمثيل به، فهو نظام زائل لا محالة. ولو أنه حاكم عاطف نجيب ما كنت لآخذ هذا الموقف. وأقولها بصراحة: على رغم معرفتي بتاريخه ما كنت لأتحول إلى مطالِبة بإسقاطه على رغم وجعنا على حمزة وما فعلوه به).

وعندما سألها قاضي التحقيق ما الذي تريده من انخراطها في الثورة على النظام؟ أجابت بكل وضوح وجرأة واستخفاف: «لا أريد لابني أن يحكمه حافظ بشار الأسد». ولم تكن تعلم في تلك الآونة بأن حافظ في الأيام القادمة سيسقط مرتين في مونديال الرياضيات العالمي، وسيكون عبئاً على الوفد السوري المشارك، لكنها كانت تعلم علم اليقين أننا إذا لم نتدارك سورية قبل فوات الأوان فسيكون هذا الولد، إذا استلم الحكم، في يوم ما، عبئاً على سورية كلها، وسيكون أسوأ من أبيه وجده، وستغدو سورية في تلك الحالة بقضِّها وقضيضها مجرد سنٍّ منخور يأكله السوس في عاجه وعصبه وعظمه، وفي تاجه وعنقه وجذره.

وغادرت مي سورية متخفية مجفَلة إلى الأردن أولاً، ثم إلى باريس أخيراً، ولكن سورية لم تغادرها، فهيهات لحامل الهمّ المكدود أن يستخفّه شاغل أو صارف. خمس سنوات من المنفى الأليم، وهي تحكي عن مأساة التنظيم الأسدي! تردد صباح مساء: سورية. الحرية. الكرامة. الأطفال. النساء. الشيوخ. الشباب. الرجال. الأبرياء. التاريخ. الحاضر. المستقبل. البلد.

خمس سنوات وهي تنادي: سورية لنا، وليست لبيت الأسد. سورية للشعب. للأمة. لكل المواطنين. لكل الأحرار. وليست لعائلة. لمافيا. لميليشيا. لطائفة. لدين. سورية لكل الإنسان، ولكل إنسان.

خمس سنوات لم نرها إلا بعينين دامعتين، وعلى رغم ذلك كانت تورق أملاً، وتكرز بشرى: «غداً عندما يسقط النظام سيخرج من سورية فنانون وشعراء وكتّاب. سيستلمون دفة الفن الجديد. سيظهر سينمائيون وكتّاب سيناريو ومصورون ورسامون ومنشدون جدد».

مي!

جعلتها «الموهبة» الخالصة فنّانة!

و «التوق» إلى الحرية والكرامة مناضلة!

و «الإيمان» بالثورة والالتحاق بها إنساناً!

وصيّرها «الإقدام» الجريء بطلة! فلم تدن بالسكوت، حين كان السكوت صمّام الأمان الوحيد لحياة خاملة كخمول حياة الطحلب!

ورسمها «النقاء» الصافي أيقونة، فتجاوزت بنقائها عكر الأمر الواقع الذي كان مجرد هاوية تفغر فاها وتبتلع!

وخلق منها «الشغف» الملتهب نجمةً تأتلق بالأمل، فلم ترضخ لليأس الذي جعل أفئدة الناس في غشاء من قنوط!

ماتت مي! لكن ستظل الأجيال الحالية واللاحقة تستلهم منها كل ضروب المضاء والشجاعة في اعتصاماتها ومظاهراتها، وجميع صنوف الصدق والإخلاص في لــقاءاتها ومقابلاتها، وستظل شاهداً على الحقيقة يوم كانت تناقش وتحاجج، وترفض وتنــدد، ويوم كانت دمعتها في عينيها مغرورقة منسكبة، وصوتها في فمها مبحوحاً متهدجاً، ومـــشاعرها في كـــيانها كله مشدودة متوفِّزة متحفِّزة.

كتب غوته مرةً عن «الأنثى الخالدة»، وما أحرى مي أن تكون هذه الأنثى! ولئن ماتت جسداً، فقد غدتْ روحاً مصفّاة، وصارتْ «أنثى خالدة تقودنا إلى الأعلى».

يا مي!

من مكانك الآن بين النجوم قولي لابن عربي الثاوي في سفح قاسيون لقد سفحوا دين الحب!

وأخبري يوسف العظمة أنهم استأسدوا بطائرات الأجنبي ليقصفوا ناس سورية في الأسواق والمشافي والمدارس!

وحدثي الحسين بن علي عن أتباعه الذين أَزْرَوْا به جهاراً نهاراً بكل انتهازية خسيسة، ودناءة قميئة، وعمى أخلاقي مطبق!

وأخبري القوتلي والقدسي والأتاسي أن الجمهورية التي أرادوا تأسيسها وتثبيتها سُحقت ومُحقت.

يا مي! سلامٌ عليك وأنت ترددين: «هذه الثورة ثورتي حتى الموت. وسأظل أدافع عن سورية العظيمة، وليس عن سورية بشار الأسد».

يا مي! طبت في حياتك ومماتك!

وطبت في مسيرتك واختياراتك!

سلام عليك في الثائرين!

وسلام عليك إلى يوم الدين!

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: محمد أمير ناشر النعم
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ