نحن وإيران
نحن وإيران
● مقالات رأي ١٠ أبريل ٢٠١٥

نحن وإيران

اختارت إيران، مع سبق الإصرار، أن تقف في خانة خصوم الشعوب العربية وتطلعاتها نحو الحرية والانعتاق من قيد الديكتاتوريات، غير أن هذا لا ينبغي أن يعمينا عن الحقيقة المُرَّة، وهي أن العيب فينا نحن، أكثر ممّا هو في إيران، أو حتى إسرائيل والغرب. فإيران، وعلى الرغم من سياساتها المدمرة في دول، مثل سورية ولبنان واليمن والعراق، وتسعيرها صراعاً طائفياً محموماً، سنياً ـ شيعياً، في فضاء المنطقة، إلا أنها تنطلق من زاوية مصالحها الوطنية، وسعيها إلى الهيمنة الإقليمية. ونحن، وإن رفضنا ذلك كعرب، فإننا مضطرون أن نحترم مَن يحترم نفسه، حتى وإن كرهنا سياساته ومواقفه. أبعد من ذلك، فإنه، وبدل الردح وإشباع إيران شتماً، فالأولى أن نعيد النظر في الأسباب الذاتية لإخفاقاتنا المخزية.
في مفاوضاتها مع القوى الكبرى حول برنامجها النووي، أثبتت إيران أنها جعلت من نفسها قوة إقليمية معتبرة، يحسب لها كل حساب. بل إن الرئيس الأميركي، بارك أوباما، وفي سياق تبريره اتفاق الإطار النووي في لوزان مطلع مارس/ آذار الجاري، أقر بأن البرنامج النووي بالنسبة لإيران هو مصدر فخار واعتزاز وطني، ما يجعل من المستحيل القفز عن هذه الحقيقة. أبعد من ذلك، أقر أوباما لإيران، أيضاً، بأنها قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.
لم تصل إيران إلى هذه المكانة الاستراتيجية عبثاً، بقدر ما أن الأمر حصيلة عقود من التخطيط وبناء القدرات والحسابات الدقيقة. ولا يجدي هنا الحديث الملقى على عواهنه من أن توتر العلاقات الأميركية ـ الإيرانية، أو العداء الإيراني ـ الإسرائيلي، في العقود الماضية، ليسا إلا تمثيلية هدفت إلى تمكين "إيران الشيعية" على حساب "العرب السنّة". فأي حديث عن مؤامرة أميركية ـ إسرائيلية ـ إيرانية مزعومة ليس أكثر من تبرير الكسول لفشله الذريع في محاولة لإبراء الذات.
منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، أي منذ ثورة الخميني على نظام الشاه، وإيران تخضع لعقوبات أميركية وغربية مشددة. ثمّ لم تلبث أن دخلت حرباً مدمرة مع العراق مطلع الثمانينيات، استنزفت البلدين سنوات، غير أن العقوبات الاقتصادية والتكنولوجية على إيران دفعتها إلى تطوير قدراتها التصنيعية الذاتية، عسكرياً ومدنياً، في حين بقي العرب أسارى منطق العالة في كل شيء. ليس هذا فحسب، بل وظّفت إيران، وبذكاء، أخطاء العرب الكارثية لصالحها. فهي استفادت من الخلافات العربية ـ العربية التي أفضت إلى تدمير العراق، غربياً وعربياً، مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد احتلاله الكويت. ثمّ إنها تحالفت، ضمنياً، مطلع القرن الجاري، مع إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، في إسقاط نظام خصمها، طالبان، في أفغانستان. ثمَّ ما لبث أن تعزز وضعها الإقليمي أكثر، عام 2003، بعد أن أسقطت الولايات المتحدة نظام عدوها الأول، صدام حسين، واحتلت العراق. وتمكنت إيران، بدهاءٍ لا يُنكَر، من استغلال التخبّط الأميركي في العراق، وورطة احتلاله له، فكان أن ابتلعت البلد عبر حلفائها الشيعة، والذين، وإن كانوا جاؤوا على متن دبابة أميركية، فإن ولاءهم كان، ولا يزال إيرانياً.
"مع انطلاق الثورات العربية أواخر عام 2010، سارعت إيران، عبر أدواتها، إلى التمدّد في الفراغ والفوضى في منطقتنا، مستفيدة من غياب رؤية عربية واعية ومستوعبة الأخطار المحدقة بالجميع"
 
أيضاً، أحسنت إيران اللعب بالأوراق الإقليمية، في ظل غيبوبة عربية شبه كاملة. فحزب الله في لبنان تحوّل إلى قوة عسكرية إقليمية، تحسب له إسرائيل ألف حساب. وفي الموضوع الفلسطيني، القضية الأقرب إلى قلوب الشعوب العربية، تبنّت إيران خطاب المقاومة ودعمها، إلى حين، بينما انشغل جُلُّ النظام الرسمي العربي بمعاداتها واستهدافها. ولم تخلُ حسابات إيران من المتاجرة في هذا السياق، فكان أن تعززت صورتها، وإلى عهد قريب، في مخيال شعوب عربية كثيرة، في وقت أصبحت فيه هذه الأوراق أدوات ضغط ومساومة في آن واحد.
ومع انطلاق الثورات العربية أواخر عام 2010، سارعت إيران، عبر أدواتها، إلى التمدّد في الفراغ والفوضى في منطقتنا، مستفيدة من غياب رؤية عربية واعية ومستوعبة الأخطار المحدقة بالجميع. فمعاداة معظم الأنظمة العربية وقمعها المطالب المشروعة لشعوبها، كشفت الدول العربية، الهشّة أصلاً، استراتيجياً. وفي حين تخبّط النظام الرسمي العربي في دعم الثورة في سورية، وارتهن في حساباته إلى الحسابات الأميركية، ومعاداته، أي النظام الرسمي العربي، أصلاً، الثورات الشعبية، لم تتردد إيران، أبداً، في دعم حليفها السوري، ممثلاً بنظام بشار الأسد. الأمر نفسه، فعلته إيران في العراق الذي لم يجد مكوّنه السني أي دعم يذكر من النظام الرسمي العربي. ولولا تمددها أخيراً في اليمن، عبر الحوثيين، وتهديدها السعودية تحديداً، والخليج العربي عموماً، لما كان هنالك أصلاً بعض صحوة عربية.
"حركة التاريخ، ومنطق الأشياء، لا يقبلان أن يكافأ الكسالى على كسلهم، ويكفينا، هنا، أن نقارن بين دولة عالة مرتكسة مثل مصر، القوة العربية الأساس، ودولة جامحة منطلقة مثل إيران"
 
إذن، لم تصل إيران إلى ما وصلت إليه جراء مؤامرة أميركية ـ إسرائيلية ـ إيرانية، بل إن إنجازاتها الإقليمية حصيلة تخطيط طويل واعٍ وصبور، وتطوير للإمكانات الذاتية ضمن رؤية ومشروع إقليمي واضح. جعلت إيران من نفسها، عبر حساباتها الذكية، وبتوظيفها حماقات خصومها الإقليميين والدوليين، لاعباً إقليمياً كبيراً لا يمكن تجاوزه. وهذا ما يقر به أوباما نفسه. فحسب أوباما، من دون اتفاق نووي مع إيران، قائم على تنازلات متبادلة، كما جرى في لوزان، لم يكن ممكناً الحد من برنامج إيران النووي نهائياً. وها هو أوباما اليوم، وفي مقابلته قبل أيام مع صحيفة "نيويورك تايمز"، يحاضر في "الحلفاء العرب السنّة"، بضرورة العمل على إيجاد توافق مع إيران، وتجاوز التصعيد الطائفي السني ـ الشيعي، في سبيل محاربة "العدو الحقيقي"، المتمثل بـ"التطرف" و"تنظيم الدولة الإسلامية". بمعنى أنه يطالبهم بإبقاء الصراع في الداخل السني! الأدهى من ذلك أن هذا هو ما حصل فعلاً في السنوات الأخيرة، وما زال هذا هو الحال! فغياب قيادة سياسية سنية سمح بتمدّد تيارات عنف هوجاء لملء الفراغ.
باختصار، تحصد إيران نتائج استثماراتها، حتى ولو كان كثير منها إجرامياً في منظورنا العربي، وهي حتى حين تُسْتَنْزَفُ، كما في سورية والعراق واليمن، فإنها تدّخر أوراقها استعداداً لمساومات إقليمية كبرى، تضمن لها مصالحها ونفوذها. في المقابل، ما زال مجمل النظام الرسمي العربي مصراً على استنزاف الذات، والبقاء مرتهناً لأجندات خارجية. دع عنك أصلاً غياب المشروع والرؤية.
وكلمة أخيرة، حركة التاريخ، ومنطق الأشياء، لا يقبلان أن يكافأ الكسالى على كسلهم، ويكفينا، هنا، أن نقارن بين دولة عالة مرتكسة مثل مصر، القوة العربية الأساس، ودولة جامحة منطلقة مثل إيران. وإذا ما قال أحدهم إن إيران دولة تتمتع بمصادر طبيعية ومقدرات اقتصادية كبيرة، كالنفط والغاز ولا يجوز مقارنتها بدولة محدودة الموارد مثل مصر، فإن السؤال يكون وماذا عن السعودية مثلاً؟ نحن أمة لا تصنع سلاحاً، ولا تنتج غذاءً، ولا تحيك لباساً، فأنَّى لنا أن ننافس ونُحترَم؟

المصدر: العربي الجديد الكاتب: أسامة أبو ارشيد
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ