نفق حافظ الأسد التاريخي
نفق حافظ الأسد التاريخي
● مقالات رأي ٢٥ يونيو ٢٠١٨

نفق حافظ الأسد التاريخي

يستخدم الإعلامُ الثَوْري مصطلحات عديدة تتعلق ببدايات ثورة 2011 في سورية، فيقول أحدُ القادة: يوم قمنا بالثورة.. ويقول أحدُ المحللين الثوريين الاستراتيجيين: عشيةَ قامت الثورة.. ويفضل إعلامي ثالثٌ استخدامَ عبارة انطلاق الثورة.. وهذا، في الحقيقة، فألٌ حسن، إذ لم يحدث أيُّ تَشَابُه في المصطلحات بين الإعلام الثوري وإعلام  النظام الذي يتحدث عن الانقلابات العسكرية بوصفها ثورات جماهيرية كبرى، فكنا نسمع أحدَ المذيعين يقول: ثورة الثامن من آذار التي فَجَّرَها حزبُ البعث العربي الاشتراكي.. وبعد سنة 1970، أصبحوا يتحدّثون عن الحركة التصحيحية، ويصفونها بـ المباركة، ويضيفون قائلين إن الذي فَجَّرَها هو الرفيق المناضل حافظ الأسد.. ولعل أكثر كلمة تثير الاشمئزاز في هذه الصياغة هي (فَجَّرَها) التي توحي للمستمع بأن الثورة "دمَّلة".

ومع أن الشعب السوري فقيرٌ، مسالمٌ، غلبان، يريد سلته من دون عنب، وإذا اضطرّته الظروف يتنازل عن السلة؛ إلا أن الجميع، بلا استثناء، حينما يذكرونه يضيفون إليه صفة "العظيم"! وقد ابْتُلِيَ، هذا الشعب السوري (العظيم)، منذ البرهة التاريخية التي تلت جلاء آخر جنديٍّ فرنسي عن تراب سورية الذي يصفونه بأنه طاهر، بالقادة التاريخيين. والقادة التاريخيون، بدورهم، لم يقصّروا بهذا الشعب، إذ لم يبق ضابطٌ من رتبة ملازم وحتى رتبة فريق إلا وجرّب نفسه بانقلاب عسكري وبيان رقم واحد، معلناً نفسه قائداً لهذا الشعب، (مُفَجِّراً) لثورته العظيمة..

أبناء الشعب السوري العظيم لم يردّوا أحداً من أولئك الضباط المغامرين على أعقابه خائباً، وكل مَنْ فَجَّرَ لهم ثورةً كانوا يقابلونه بالسكوت، وأحياناً بالرضا، وأحياناً باللامبالاة، مؤملين أن تنتهي أيام "منع التجول" ليعودوا إلى أشغالهم ويثابروا على تحصيل قوت عيالهم.. وكان بعضُ المنافقين، من أبناء الشعب العظيم نفسه، يؤيدون الضابط المغامر قولاً وفعلاً، ويرسلون إليه برقيات تهنئة، ويخرج بعضهم إلى الشوارع، مثل المهابيل، وهم يهتفون بحياته، وحياة أبيه، وأخيه، وأمه، وأخته، وعمّته، وخالته، ونانته.. وما هي إلا أيام قليلة ويتخلصون منه، أو، على قولة أهل دمشق (يطوطون له)، ويعلن ضابطٌ مغامرٌ آخر بيانَه ذا الرقم واحد، فيؤيده المنافقون، ويرسلون إليه البرقيات، ويرقصون له، وهذا ما دفع المؤرخ بشير فنصة إلى أن يسخر من هذا الحال، فيقول: القادم نعطيه رقصة والذاهب نعطيه (..)!

مع انقلاب "الحركة التصحيحية"، لم تدخل سورية، كما يقول المؤرخون، في مرحلة تاريخية جديدة، بل إنها، على الأصح، دخلت في نفقٍ تاريخيٍّ مظلم طويل.. ولم يعد في مقدور الشعب العظيم الذي أُجْبِرَ على الدخول في النفق أن يَسْخر من الانقلابيين بـ رقصة و(..)، إذ سرعان ما أمر المجرمُ التاريخي، حافظ الأسد، ببناء مؤسساتٍ أمنية فاشستية أخطبوطية، مهمتُها الأساسية معالجة الأعراض التي تظهر على أي إنسانٍ سوريٍّ وتوحي بالتذمر، أو التململ، أو السخط، أو المعارضة، وأمسى المواطنون السوريون يُسْحبون من بيوتهم عند الفجر، على الهسّي، والسكيت، ومن دون اعتراض من أحد.. وقد صور الأديب السوري الكبير، إبراهيم صموئيل، في شهادته في فيلم "ذاكرة بلون الخاكي" للمخرج الفوز طنجور، هذه العمليةَ، بقوله إن الباب يقرع عند الفجر، ويَفتح المواطن الباب ليرى مجموعةً من الرجال المدنيين المسلحين يقولون له: تعال معنا.. وهو لا يستطيع أن يسألهم (من أنتم؟)، فهذا ليس من حقه، وهم، أصلاً، غير معنيين بالإجابة، وهنا تأتي سيدة المنزل، أم المواطن أو وزوجته، وتسألهم: لوين آخدينُه؟ وهنا يوضح إبراهيم: لا تسأليهم ليش آخدينه؟ لأن هذا السؤال ليس من حقها، وإنما، من خوفها، وصدمتها، تريد أن تعرف (لوين آخدينه).. فيقولون لها بلامبالاة: ما في شي، فنجان قهوة وبيرجع.

ومعلوم أن الذين دعوا إلى تناول فنجان قهوة في معتقلات حافظ الأسد، ووريثه بشار، قد أمضوا عشرات السنين في المعتقلات، وذاقوا فيها كل شي.. عدا القهوة.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: خطيب بدلة
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ