هل تعرف سورية عملية إعادة إعمار قريبا؟
هل تعرف سورية عملية إعادة إعمار قريبا؟
● مقالات رأي ٢١ أكتوبر ٢٠١٧

هل تعرف سورية عملية إعادة إعمار قريبا؟

ردّد الإعلام السوري أن افتتاح معرض دمشق الدولي صيف العام الجاري (2017)، بعد توقف استمر منذ 2011، هو بمثابة إعلان عن بداية الإعمار في سورية. ويطلق النظام بعض مشاريع يدرجها تحت مسمى "إعادة الإعمار"، وتكثر الأحاديث اليوم في وسائل الإعلام الغربية عن إعادة الإعمار في سورية. وتعلن روسيا أنها ستقود إعادة الإعمار هذه، ويتحدث لبنان عن توسيع ميناء طرابلس، لاستيعاب الطلب الهائل المرتقب على البضائع ومواد البناء التي تتطلبها إعادة الإعمار في سورية. واستضافت عمّان نهاية يوليو/ تموز الماضي مؤتمراً دولياً بعنوان "إعادة إعمار سورية"، حتى الصين التي نأت بنفسها طويلاً عن الصراع في سورية استضافت في بداية أغسطس/ آب أول معرض تجاري لمشاريع إعادة إعمار سورية، والذي أعلنت فيه إحدى مجموعات التجارة العربية- الصينية توجهها إلى بناء حدائق صناعية في سورية. ويصرح رئيس مجلس الغرفة التجارية السعودية السابق، عبد الرحمن بن عبدالله الزامل، لصحيفة تركية بأنّ "الحرب في سورية لن تطول أكثر من عام، وأنّ تركيا والسعودية ستقودان إعادة إعمار سورية". لكن، على الرغم من ذلك كله، هل ستبدأ إعادة إعمار سورية قريبًاً؟

تكاليف هائلة
لمعرفة واقعية تلك التصريحات، لا بد من معرفة حجم الدمار المادي والمجتمعي الذي تتطلب إعادة إعماره تكاليف هائلةً. ولا توجد دراسات موثوقة لتقدير تكاليف إعادة البناء، فعملية الهدم مستمرة، وإن تراجعت حدتها. ولكن يمكن إلقاء نظرة عامة على الدمار واحتياجات إعادة البناء. ويتركز الدمار المادي والمجتمعي في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة أو "داعش" وجبهة النصرة. وتتشكل تكاليف إعادة البناء من مجموعة من المكونات:
- نفقات لإعادة بناء ما تم تدميره، وتشمل نحو مليون بيت مدمر ونحو مليون بيت آخر تحتاج لإصلاح، إضافة إلى جزء كبير من المدارس والمستوصفات والمشافي ومباني المؤسسات الحكومية والمصانع ومباني الشركات العامة والخاصة، والطرق وشبكات الكهرباء والماء والصرف الصحي وأقنية الري وغيرها. إضافة إلى جزء كبير من المؤسسات والشركات العامة والخاصة وموجوداتها من آلات ومعدات وتجهيزات تم تدميرها أو سرقتها في تلك المناطق. ويتركز معظم الدمار في مدينة حمص وريفها، وخصوصا الحولة والرستن وتلبيسة، وريف حماه الشمالي والشمالي الغربي، ومدينة حلب وريفها ومدينة درعا وريفها، ومدينة دير الزور وريفها، ومدينة الرقة وريفها، ومدينة إدلب وريفها، وشمال اللاذقية وجزء من مناطق البادية وتدمر، وبعض مناطق أخرى. أي معظم مناطق سورية.

- نفقات لإعادة بناء مؤسسات الدولة في جميع القطاعات، من مديريات وزارات خدمية واقتصادية لإعادة تنظيم الحياة، وإعادة بناء الشرطة والجيش، لتكون قادرة على ضباط الأمن، وطرد جميع المقاتلين الأجانب، وتحقيق الاستقرار.
- نفقات لحل مشكلة مئات آلاف من المسلحين على كلتا جبهتي القتال، وإيجاد بدائل دخل لهم كي يتخلوا عن حمل السلاح.
- نفقات إعادة توطين ستة ملايين لاجئ سوري في دول الجوار، وستة ملايين مهجر داخلي. إضافة إلى مليون آخر في بقية دول العالم، وهو عبء أكبر من كبير.
مما تقدم، يظهر بجلاء أن تكاليف إعادة البناء ليست بضعة مليارات، أو حتى بضع عشرات مليارات الدولارات، التي يمكن تأمينها بسهولة أو بصعوبة محدودة خلال بضع سنوات، بل هي مئات مليارات الدولارات، وقد قدّرها البنك الدولي العام الماضي بنحو 200 مليار دولار، ما يضعها خارج أي إمكانية لتأمينها عن طريق منح وتبرعات. ولن نبحث هنا تعقيدات العملية ذاتها.

لتحقيق مصادر تمويل كافية لنفقات بهذا الحجم، يجب النجاح في تأمين حزمة كافية من المصادر: 1) تبرعات وإعانات مجانية من حكومات ومنظمات عربية وعالمية مانحة، 2) قروض تُمْنَح للدولة السورية، 3) صناديق تمويل تَمْنَحْ قروضا ميسرة للشركات وللأفراد، 4) استثمارات السوريين في الداخل والخارج، 5) استثمارات عربية وأجنبية، 6) إعادة إطلاق الاقتصاد السوري. وستلعب الإعانات دور "المحفز" لبقية المصادر، والتي ستخلق المقدمات الأولية لبقية المصادر. ولكن ما سيعيد الإعمار فعلاً تنمية القدرات الذاتية لسورية والسوريين، وهي ما زالت مدمرة.


من سيموّل؟
فقدت سورية خلال الصراع معظم قدراتها الذاتية، وأصبحت قدرتها على التمويل الذاتي لإعادة الإعمار أمرًا غير وارد، بسبب ضخامة احتياجات إعادة الإعمار. وعلى الرغم من ذلك، يصرح رئيس الوزراء السوري، عماد خميس، بأنّ "أولوية الاستثمار في سورية ستُعطى لرجال أعمال من دول صديقة وشقيقة، وقفت بجانب سورية في حربها ضد الإرهاب". لكن إلى جانب الدعاية السياسية في هذا التصريح، فإنه يشير إلى جهل مطبق باحتياجات إعادة الاعمار ومصادر تمويلها الممكنة، فالدول التي يقصدها ليست قادرة على الإسهام الفعال في إعادة إعمار سورية، بل هي تريد أن تحّول إعادة الإعمار إلى مصدرٍ يدر عليها ربحًا، فروسيا لن تقدّم أي معونات، فوضعها الاقتصادي سيئ، وهي تنتظر أن تستفيد من وجودها في سورية. وقد أبرمت شركات روسية اتفاقاتٍ مع الحكومة السورية لاستثمار الغاز في المياه الاقتصادية السورية في البحر الأبيض المتوسط. وحصلت شركة ستروي ترانس غاز الروسية على امتياز استثمار الفوسفات في حقول فوسفات المنطقة الشرقية الذي كانت تسيطر عليه "داعش"، وقد تعاونت هذه الشركة مع شركة أمنية روسية، تسمى إيفروبوليس، ولها نحو 2500 مرتزق في سورية، تقاتل ضد "داعش" في المنطقة الشرقية في البادية وتدمر ودير الزور، و قد أبرمت اتفاقًا مع الحكومة السورية، تحصل بموجبه على 25% من إنتاج حقول النفط والغاز التي تفلح في تحريرها من سيطرة "داعش". وتدعو روسيا الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي إلى دعم إعادة إعمار سورية، بدون ربط الدعم بتحقيق حل سياسي، وهذا لن يتحقق، فجميع الدول المرشحة لدعم إعادة الإعمار لا تعد مسار أستانة حلًا سياسيًا، وتتمسك بمسار جنيف وقرار مجلس الأمن 2254. وإيران هي الأخرى ليست في وضع يمكّنها من تقديم أي مساعدة فعالة لإعادة الإعمار، وكل ما يمكن أن تفعله أن تشتري عقارات. وهناك 40 شركة إيرانية تشتري البيوت والعقارات في دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية. وتطمح إيران إلى بناء قاعدة عسكرية بحرية على المتوسط. ولا يتوقع من الصين أن تقدم أي مساعدات، فهي اعتادت أن تقبض، ويمكن أن تأتي باستثمارات، وهذا أمر يسهم في إعادة الإعمار. ويقدم الاتحاد الأوروبي عادة مساعداتٍ تتخذ شكل مساعدات تقنية ومشاريع بنية تحتية، ولكنها ليست أرقاما كبيرة، كما تشترط الاستقرار عبر حل سياسي، يعيد وحدة سورية، كما يمكن لسورية أن تحصل على قروضٍ من البنك الدولي ومؤسسات مالية وعربية، فيما لو تحقق استقرار عبر الحل السياسي نفسه. وتبقى الدول الأقدر على تقديم المنح والاستثمارات هي دول مجلس التعاون الخليجي، وهذه لن تسهم بإعانات أو استثمارات، ما لم يتم الوصول الى حل سياسي فيه حد مقبول بالنسبة لها، وإلا ستدير ظهرها وهذا هو المرجّح حتى الآن.


لا إعمار بدون حل سياسي
لن تتم إعادة إعمار حقيقية في سورية تعيد إعمار كل هذا الدمار، وتعيد المهجرين البالغ عددهم بين خارج سورية وداخلها نحو 12 مليون، وتعيد لحمة المجتمع الذي دمر هو الآخر، ولن تأتي الاستثمارات والمعونات والقروض على نحو كاف من أي جهة كانت، ما لم يتحقق الاستقرار وتعد وحدة سورية، ويتوقف الصراع داخلها، ويتوقف الصراع بين القوى الإقليمية على أرضها. ولن تتحقق هذه الشروط بدون حل سياسي، يشارك فيه أطراف النظام والمعارضة وبقية أطراف المجتمع السوري، ضمن صيغة تعيد وحدة سورية، وتحقق حدًا أدنى من عملية انتقال سياسي تمكّن الشعب السوري من ممارسة حرياته العامة، وأن تجري انتخابات نزيهة بإدارة دولية، بحيث تقتنع كل قوى المجتمع السوري، وتندفع إلى العمل على إنجاح إعادة إعمار شاملة مادية ومجتمعية. وأن يلقى هذا الحل دعم القوى الإقليمية والدولية.

ما زال هذا الوضع بعيدًا، ويتطلب تأمين كل هذه الاحتياجات لإعادة إعمار سورية شروطًا سياسيةً لا يبدو أنها تتحقق في الواقع، بل يبدو أن الواقع يسير عكس ما يحقق الشروط المناسبة لتأمينها، فسورية اليوم تسير باتجاه التقسيم إلى عدة مناطق سيطرة مستقلة، تتضح حدودها التقريبية بالتدريج، وإن كانت ما زالت متحركة، ولكن ما تلبث أن تستقر خلال بضعة أشهر. فالأكراد يسيطرون، بدعم أميركي على شمال شرق سورية، ويشمل محافظتي الحسكة والرقة وأجزاء من حلب، وينافسون النظام على دير الزور. وتركيا تسعى إلى توسيع منطقة سيطرتها لتشمل شمال شرق وغرب حلب ومحافظة إدلب. وتبقى المناطق الأوسع هي مناطق سيطرة النظام وحلفائه، من دير الزور لتشمل البادية وغرب سورية، بما فيها خط المدن من حلب الى حماه وحمص ودمشق والسويداء. ثم عدة مناطق مازالت تحت سيطرة المعارضة الآن في شمال حماة ومنطقة الرستن وتلبيسة في حمص وغوطة دمشق الشرقية والجزء الأكبر من محافظة درعا. ويتوقع أن تنتهي هذه المناطق تدريجيًا، لتصبح تحت سيطرة النظام، وإن كان مع بعض الخصوصية. إذن، لن يكون هناك سورية واحدة في الأمد القريب. وهذه أول عقبة أمام إعادة الإعمار، لأن هذا التقسيم يعني عدم الاستقرار.

من جهة أخرى، تكاد المعارضة السورية تخسر كل شيء، ويسارع داعموها إلى غسل أيديهم من دعمها ودمها. ويرفض النظام، ومن ورائه إيران، تقديم أي شيء للمعارضة، فهو لم يقبل تقديم أي شيء عندما كان في أصعب وضع سنتي 2012 و2013، وبالتالي هو لن يقدم أي شيء الآن لـ"معارضة منهزمة". وإيران تدعم هذا الحل الصفري، أي "لا حل سياسي، ولا شيء لمعارضة مهزومة".

يعلم الروس أن الحل الصفري لن ينتج سوى استمرار عدم الاستقرار، ولو بوسائل أخرى، وأمامهم تجربة العراق. وتعلم روسيا أنه بدون حل تقبل به فصائل المعارضة، وتؤيده تركيا والسعودية، وبقية دول مجلس التعاون، سيكون من الصعب تحقيق الاستقرار. وفي الوقت نفسه، لا تقبل روسيا طروحات المعارضة بانتقال سياسي. لذلك ضغطت روسيا على تركيا، ثم على السعودية، محوّلة موقفيهما الداعم للمعارضة إلى موقف ينسق مع موسكو، ودفعتهما إلى التراجع ضمنًا عن مسار جنيف، وعن قرار مجلس الأمن 2254 والقبول بمسار أستانة الروسي بديلا وحيدا متاحا، والذي لا يقوم على انتقال سياسي، بل على إعادة تأهيل النظام، فالروس مقتنعون أن مصالحهم مرتبطة ببقاء النظام من دون تغيير، مع إشراك المعارضة بحصة ثانوية من السلطة بعد تدجينها، وهو بديل يقدّم للمعارضة القليل. وضغطت روسيا عسكريًا على فصائل المعارضة للقبول بالشيء نفسه. وضغطت على النظام وإيران للقبول بمسار أستانة، بدلًا من حلهم الصفري. وتستفيد روسيا من الصمت الأميركي، والذي حدّد حصته بمناطق سيطرة الأكراد.

إطلاق إعادة إعمار بدون حل سياسي، إضافة إلى أنها لن تكون أكثر من إعادة إعمار محدود جدًا، فهي سترسخ التقسيم. وتفيد تجارب دول العالم بأن الصراع على تقسيم كعكة إعادة الإعمار يثير صراعات جديدة، ودورة جديدة من العنف، خصوصا في وضع سورية المقسمة إلى عدة مناطق سيطرة. وإعادة إعمار مع استمرار التقسيم يعني أن جهات محدّدة ستدعم إعادة إعمار محدودة في مناطق المعارضة، وبعضها سيدعم إعادة إعمار محدودة في مناطق سيطرة النظام، وقد لا يتوفر من يدعم إعادة إعمار مناطق سيطرة الأكراد، فأميركا لا تدفع لإعادة أي إعمار. وتبرعات إعادة الإعمار واستثماراته ومشاريعه المحدودة التي ستصل إلى كل منطقة سيتم تخصيصها للموالين والمناصرين لمن يحكم المنطقة، وحرمان المعارضين، أي لن تكون إعادة الإعمار في هذه الحالة وسيلةً للتعافي الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي، بل ستؤسس لمصالح سياسية ومادية مافيوية، ونفوذ إقليمي ودولي، في كل منطقة، وستجد هذه المافيات والمصالح الإقليمية والدولية مصلحتها في استمرار التقسيم وتكريسه، الأمر الذي يعني أن إعادة الإعمار، في حال غياب حل سياسي يعيد وحدة سورية، ستبقى بعيدة إلى أجل غير قريب.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: سمير سعيفان
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ