هلال إيران يكتمل في سوريا
هلال إيران يكتمل في سوريا
● مقالات رأي ١٢ ديسمبر ٢٠١٤

هلال إيران يكتمل في سوريا

قبل نحو عقدين من الزمن، لم يكن للإيرانيين نفوذ وسيطرة واضحة على القرار السوري كما هو الحال اليوم، إذ بدأ هذا النفوذ غير الطبيعي بالنمو متسارعاً خلال السنوات العشرين الأخيرة، فتصنيف الولايات المتحدة سوريا ونظامها كدولة “داعمة للإرهاب” دفع الأسد الأب لإقامة تحالف استراتيجي مع إيران التي صنفتها أمريكا أيضاً “دولة الشر”، وكان تحالفاً عضوياً لم ترغب فيه غالبية السوريين، ففيه سمح الأسد الأب لإيران بالمشاركة في رسم سياسات سوريا الداخلية والخارجية.

ورث الأسد الابن السلطة عن أبيه، وورث معها استعلاءه على المجتمع الدولي وتمرده عليه، كما ورث رغبة بـ(الخلود)، فقابله الغرب بتشديد العقوبات خاصة بعد اتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وإجباره على إخراج الجيش السوري من لبنان، وزاد على ذلك سوء علاقة الرئيس عديم الخبرة بالكثير من الزعماء العرب.

مع بدء الثورات العربية ضد الدكتاتوريات، وإطاحتها برؤوس كبيرة، وانطلاق انتفاضة كرامة وحرية في سوريا، قرر الأسد تسليم مصيره لإيران تدريجياً، وتجاوز الحد الذي رسمه نظام أبيه لهذه العلاقة، وفتح أبواب سوريا على مصراعيها لإيران مقابل أن تضمن له (الخلود) في السلطة والحماية من غضب شعبي، كان يتوقعه أبوه الذي بنى منظومته الأمنية العسكرية لتكون مستعدة له عندما يأتي.

رحّبت إيران بهذا العرض “السخي” من الأسد، وسخّرت أذرعها الدينية والاقتصادية والعسكرية، المباشرة وغير المباشرة، لحمايته ونظامه، فخططت للنظام وأجهزته الأمنية وجيشه، ودربت ميليشيات غير نظامية طائفية تابعة للنظام، وسخرت قدرات حزب الله اللبناني الشيعي لحمايته، كما أدخلت ميليشيات عراقية ويمنية وغيرها من الدول للدفاع عنه، ولحفظ ماء الوجه أمام المجتمع الدولي والعرب تذرّعت بحجة الدفاع عن الأماكن الدينية الشيعية في سوريا، والدفاع عن محور “الممانعة والمقاومة” المعادي لإسرائيل، وعبثت بكل شيء يمكن أن يثير الأحقاد الطائفية في سوريا وفي خارجها.

إيران التي قدّمت كل هذا للأسد ونظامه حصلت بالمقابل على ما تريد، فسيطرت على القرار السياسي والعسكري، وأصبح قادة الحرس الثوري هم أصحاب القرار لا الأسد، وانتقلت قيادة سوريا من أسرة الأسد إلى يد خامنئي، وربما لأصحاب رتب أقل كثيراً من خامنئي، وتعامل الأخير مع الملف السوري كزعيم فارسي شيعي في مواجهة ثورة عربية سنّية، وزاوج الإيرانيون حالة القومية الفارسية مع حالة المذهبية الشيعية، ليس لقناعة بل لمصلحة. لم ينس السوريون ما قاله أحد كبار قادتهم (رحيم صفوي) بأن حدود بلاده الحقيقية صارت على شواطئ المتوسط، كما لم ينسوا ما أعلنه أحد مراجعهم الدينية (مهدي طائب) بأن سوريا صارت المحافظة رقم 35 في إيران، وهو كلام ليس فيه مبالغة، فقد حوّل بشار الأسد سوريا إلى كيان إداري إيراني محلّي.

دعمت إيران بكل الطرق حرب النظام السوري ضد الغالبية المنتفضة في سوريا، وأدى عنفها وعنف النظام إلى مقتل مئات الآلاف من السوريين، وأدى هذا بدوره لتأجيج الإسلام المتطرّف وتمدده على حساب الإسلام المعتدل.

عندما أوشكت شبكة سيطرة نظام الأسد على سوريا على الانهيار، أشرفت إيران بنفسها على ترتيب المشهد الميداني في سوريا تخطيطاً وتنفيذاً وإشرافاً، حتى أن بعض القطاعات صار محرماً دخولها، أو التواجد فيها، على أي سوري إلا لنخبة ممن تثق فيهم إيران.

بهيمنة إيران على سوريا سيطرت بالمعنى الاستراتيجي على قلب الشرق الأوسط، وبات نفوذها يمتد من إيران وحتى المتوسط، شاملاً العراق الذي يقع تحت سيطرة حكومة شيعية موالية لطهران همّشت المكوّن السنّي، ثم لبنان الواقع تحت سيطرة حزب الله اللبناني الشيعي الذي أعلن أمينه العام حسن نصر الله في أحد خطبه أن ولاءه الأول للولي الفقيه وليس للبنان، فضلاً عن موطئ قدم لإيران في فلسطين عبر تمويل فصائل فلسطينية إسلامية مسلحة متمردة، وهذا الكلام يُترجم عملياً لخريطة “الهلال الشيعي” التي حذّر منها الملك الأردني قبل نحو عقد من الزمن، وأنجزت إيران أول هلال، وأردفته بهلال آخر من الجنوب، يمر بالبحرين التي تحاول إيران زعزعة أمنها، واليمن الذي سيطر الحوثيون المرتبطون بإيران على السلطة فيه، وكذلك عمان والسودان المرتبطتان بعلاقات خاصة مع إيران.

تحقق إذن حلم إيران الجامح في الوصول إلى البحر المتوسط، وربما تعتقد الآن أنها اقتربت من تحقيق حلم أهم لطالما داعب خيال قادتها، وهو المشاركة في تقرير مصير الشرق الأوسط والخليج العربي، وصياغة النظام الإقليمي برمته، وتحديد موقع أطرافه منفردة أو بالتشارك مع الدول العظمى، وإعادة رسم خارطة الإقليم العربي وفق مصالحها وأطماعها الفارسية، وهي، بطبيعة الحال، خارطة قومية طائفية أيديولوجية ثأرية قسمت الشرق الأوسط لدول طائفية غير قابلة للعيش وغير قابلة للعودة لطبيعتها في نفس الوقت.

لكن يصح هنا التساؤل، هل تتناسى إيران أن بنيتها العرقية والمذهبية بنية قلقة؟ لأن أكثر من نصف الإيرانيين (حوالي 55 بالمئة) من أصول غير فارسية: أذريون (شمال إيران) وأكراد (شمال غرب إيـران) وعرب (جنوب غرب إيران) وبلوش (شرق إيران)، كما أن 35 بالمئة من الإيرانيين هم من السنّة، ولعبها بالخرائط هي لعبة خطرة يمكن أن تستخدم ضدها، وهو في الغالب ما سيكون في يوم من الأيام.

الإستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط مرت بعدة مستويات، الأول تصدير الثورة وإقامة أنظمة سياسية تتبنى الرؤية الإيرانية في الحكم (ولاية الفقيه) كالعراق، والثاني كسب نفوذ في دول الشرق الأوسط عبر استتباع الأنظمة السياسية كما في سوريا، والثالث عبر إقامة أحزاب سياسية شيعية وتشكيل ميليشيا طائفية مسلحة في الدول التي تضم طائفة شيعية كما في لبنان والعراق واليمن وأفغانستان، والمستوى الرابع عبر تبنّي أحزاب سياسية إسلامية في الدول التي لا توجد فيها طائفة شيعية كما في فلسطين (حماس والجهاد الإسلامي) وكردستان العراق (حزب الاتحاد الوطني- طالباني) ومصر (الإخوان المسلمون) والسودان ونيجيريا (بوكو حرام) وطاجيكستان وأوزبكستان وتركيا (حزب الله التركي، وحزب العمال الكردستاني).

ساعد بشار الأسد إيران على تنفيذ مخططاتها، فدفع الثورة نحو العسكرة وغذى التطرف، ورفد التنظيمات الإرهابية بكل أسباب الحياة والقوة ومنها إطلاق سراح سجناء تكفيريين، وورط طائفته كلها في معركته ضد الشعب، وسمح لميليشياته بارتكاب مجازر طائفية، لكن ليس الأسد وحده من ساعد إيران، بل هناك الدول الغربية التي لم تقم بأي تصرف يمكن أن يردعه ويضع حداً لحربه غير المتكافئة ضد الشعب.

لإيران تاريخ من الاستفادة من الفوضى، وهو أسلوب استعملته في لبنان والعراق وأفغانستان واليمن والسودان والآن في سوريا، لكنها حتى لو استطاعت ترتيب المشهد الحالي، فإنه سيكون مشهد متحرك غير مستقر في بحر عربي سنّي رافض لها، وربما تكتشف متأخرة أنها استنزفت طاقاتها في الورطة الشرق أوسطية، وتضطر ليس فقط للاستغناء عن خرائطها وأقواسها وهلالاتها التي تحلم بها، بل لاستنفار كل طاقاتها لإبعاد خطر التقسيم عن الخريطة الإيرانية الحالية.

المصدر: العرب الكاتب: باسل العودات
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ